زيورخ.. مساء بارد ومبلّل بالريبة.
في فندق قديم تشوبه رائحة التواريخ المنسية، خُصّصت غرفة سرّية، أُغلقت فيها الستائر بإحكام، وخُفّضت الإضاءة حتى تحولت الجدران إلى أشباح رمادية تراقب بصمت.
هنا، لا تُعقد الاجتماعات.. بل تُستدعى الأرواح.
في المنتصف، طاولة مستديرة غطاها مسعد بولس بمفرش يحمل خريطة السودان مطبوعة بحبر أحمر قانٍ.
أمام كل مقعد، بخور مصري فاخر، أُستجلب بولس رزمته بعد لقائه مع وزير خارجية القاهرة — يُقال إنه “مبخر الفراعنة الأخير” المستخدم في تعميد المومياوات القديمة!
من إسطنبول، جلب مسعد قارورة زيت مقدّس، قالت الحكايات إنها خُلطت بأدعية عثمانية وشعوذة دبلوماسية، بعد أن التقى وزير الخارجية التركي في دهاليز النوايا المبطنة.
أما قطر، فلعبت دور “الشيخ الموصِّل”، فتولت نقل الضيف الرئيسي — الجنرال البرهان — على طائرتها الخاصة، كمن يأتي بجثة مقدسة إلى جلسة إحياء عاجلة.
جلس بولس، بثوب العرّاف، واضعًا على رأسه عمامة خفيفة تشبه خرائط الدولة السودانية حين تتمزق، وأخرج تمائم خضراء بها كتابات بالإنجليزية والعربية واللغة المروية أو “الكوشية المخفية”، ثم فتح دفترًا مهترئًا كُتب عليه: “إستراتيجية إحياء المركز المنهار”.
أشعل البخور. تصاعد الدخان كثيفًا، ملأ الغرفة، حتى خُيّل للداخل أن الأرواح فعلاً حضرت.
ثم همس:
“يا روح المركز الميت.. يا ظل السودان القديم.. عُد إلينا من بئر الانقلابات، ومن رماد الحرب، ومن ظلال الجنرالات المهزومين.. ناديناك باسمك، فاستجب!”.
“أخرجي أيتها الحركة الإسلامية، أيتها الناشطة الإرهابية.. أخرجي”.
الجنرال البرهان، جالس على كرسي جلد قاتم، بدا كتمثال يتأرجح بين الحياة والعدم.
كان رأسه يتمايل.. لا ندري إن كان إيماءً أو غفوة.
حاول بولس أن يُحفّزه قليلا:
غمس سبّابته في زيت إسطنبول، ووضعه على جبين الجنرال، وقال: “هذا سرج جديد، يا جنرال.. لعلّ الحصان ينهض.”
لكن البرهان لم يتحرك.
أخرج بولس ورقة كتب فيها: “حكومة تكنوقراط”، وأخرى تقول: “مدنية بمباركة عسكرية”، وثالثة مكتوب عليها: “الاعتراف مقابل الضبط”.
علقها كلها على الجدران، كأنها طلاسم لاستدعاء الاعتراف الغائب.
مرت الساعات الثلاث، والبخور يحترق، والجنرال يتنفس بصعوبة، لا لأن الروح عادت، بل لأن الدخان كان كثيفًا.
ثم نطق بولس أخيرًا، بصوت مخنوق:
“لقد حاولنا كل شيء.. غيّرنا السرج، بدلنا العلف، ضمّخنا الهواء بالتمنيات.. لكن الحصان لا يتحرك.”
سادت لحظة صمت مريرة.
ثم غمز بولس لأحد مساعديه:
“اكتب تقريرًا يقول: هذا الحصان بخير.. فقط يحتاج إلى قليل من الوقت.”
وغادر الجميع الغرفة.. لا أحد ينظر إلى الوراء.
أما هنا حيث أنا، فالكل يعلم:
أن هذا الحصان ميت، وأن طقوس تحضير الأرواح لن تُغيّر هذه الحقيقة.
لكنهم هناك، لا يزالون يرقصون حول الجثة المسجاة.. في انتظار معجزة أن ينهض حصان السودان القديم الذي أطلقت عليه ثورة ديسمبر المجيدة رصاصة الرحمة قبل نحو ستة أعوام، قبل أن يكرر هذا الجنرال العنيد محاولات إعادته الي الحياة بانقلاب 25 أكتوبر، وبحرب 15 إبريل.
علي أية حال، فإن أقصي ما يفعله بولس الذي جاء الي زيورخ مُحمّلاً بتمائم البيت الأبيض وتعاويذ الخارجية، يشبه محاولة إطعام الحصان الميت علفاً عضويًا، أو تزيينه بسرج لامع، أو حتي باستدعاء خيال فارس آخر ليعتليه.
كأن بولس يتصور أن المشكلة لم تكن في الحصان بل في حدوته.
بيد أنه في اجواء نيالا الماطرة، ليس ثمة من يصدق طقوس إحياء العظام وهي رميم، ولا صكوك غفران سياسية ينبعث دخانها من مواقد خارجية.
يتابع الناس كيف يحاول سحرة المركز أن يصنعوا من رماد الخرطوم الملوث ببقايا الأسلحة الكيماوية معجزة جديدة، في وقت تحولت فيه البلاد من أطلال سلطة إلى ضمير يستيقظ يبحث عن وطن.
هنا، في هذه المدينة التي تحتفي بجماهيرها الحية، لا الأشباح، تعرف الفرق جيداً:
أن هناك في زيورخ يُعقد اجتماع سري لمناجاة الأشباح وهنا يُكتب الحاضر بأقدام الناس.
هنا تُكتب شرعية تُخرجها الشوارع لا الموائد.
وهناك تُقرأ الفاتحة على مشروع ميت، يُعاد ترميمه كل مرة بحفنة وعود وشعارات مقولبة.
“البحير” تعلم، كما علمت قبائل الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين بداكوتا ذات حكمة:
“إذا اكتشفت أنك تركب حصاناً ميتاً، فالنزول هو الخيار الوحيد.”
إذن دعوا الحصان يرقد بسلام.
إذ ليس كل ميت قابل للبعث، ولا كل جنرال يصلح لزمن الشعوب.
المهم سنواصل كتابة حكايتنا من هنا.. ليس من زيورخ، حيث دار الحديث حول وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية، مع تأكيد البرهان على رفض أي دور سياسي لقوات الدعم السريع في مستقبل السودان.
سأكتب من البحير، حيث يعيش الناس تحت وطأة الصراع، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن لمثل هذه اللقاءات أن تُنهي الحرب فعلاً؟.
الحرب في السودان لم تعد مجرد صراع على السلطة، بل أصبحت معركة حول شكل الدولة نفسها: من يُعرّف الوطن؟ من يصوغ الجيش؟ من يُقرر الهوية؟
نوع هذه الأسئلة لا تُحل بتسويات فوقية، بل تتطلب إعادة صياغة شاملة لعقد اجتماعي جديد.
علي هذه الأرض، تتجلى إرادة التغيير الجذري، حيث يسعى الناس إلى تجاوز دولة “ما بعد الاستعمار” نحو تأسيس دولة جديدة، بعقد اجتماعي جديد، وجيش جديد، وهوية مدنية علمانية جامعة.
واشنطن قد تستطيع فرض هدنة أو ترتيب مؤقت، لكنها لا تملك مفتاح السلام الدائم في السودان ما لم تستوعب أن الحرب خرجت من الخرطوم ولم تعد إليها.
فالحل الجذري ليس خياراً ترفياً، بل شرط لبقاء السودان ككيان واحد.
نيالا، بصوتها الهادئ ولكن الواضح، تُذكر الجميع بأن السلام الحقيقي لا يأتي من قاعات المؤتمرات البعيدة، بل من الاستماع إلى أصوات من يعيشون واقع الحرب يوماً بيوم.