يمثل التفاعل الإيجابيّ أو الاندماج في المجتمعات الجديدة تحديًا أمام أي جماعة مهاجرة، إلا أن حالة السودانيين في الشتات تتسم بخصوصية واضحة، بحكم البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكلت في سياق تاريخي طويل.
في كثير من الأحيان، يحافظ السودانيون على أنماط حياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية كما هي، دون مواءمة كافية مع السياق الجديد، ما يخلق فجوة متنامية بينهم وبين المجتمعات المستضيفة.
وفق نموذج جون بيري (John W. Berry) في دراسات الهجرة، يمكن تصنيف استراتيجيات المهاجرين في التفاعل مع الثقافة الجديدة إلى أربعة أنماط:
الاندماج: الحفاظ على الهوية الأصلية مع الانخراط الإيجابي في المجتمع الجديد.
الاستيعاب: التخلي عن الهوية الأصلية لصالح تبني ثقافة المجتمع المستضيف.
الفصل: التمسك بالهوية الأصلية مع محدودية أو انعدام التواصل مع المجتمع الجديد.
التهميش: فقدان الهوية الأصلية وعدم الاندماج في الثقافة الجديدة.
يرى عالم الاجتماع “أنتوني غيدنز” أن الهوية في ظروف النزوح القسري تخضع لإعادة تعريف مستمرة وفق ضغوط البيئة الجديدة، بينما يشير “مايكل أغير” إلى أن معسكرات اللجوء والمستوطنات المؤقتة قد تنتج أنماطًا اجتماعية موازية تزيد من عزلة الجماعة.
تُظهر الملاحظة الميدانية أن غالبية السودانيين في الشتات يميلون إلى استراتيجية (الفصل)؛ وهو ما يعزز الانغلاق الاجتماعي ويبطئ وتيرة الاندماج.
الصدمة الثقافية
تصف نظرية Oberg (1960) الصدمة الثقافية بأنها حالة من الارتباك النفسي وفقدان الإحساس بالمرجعية المعتادة عند الانتقال إلى بيئة مختلفة.
بالنسبة للسودانيين، غالبًا ما تطول هذه المرحلة نتيجة تمسكهم الصارم بأنماط الحياة والسلوكيات المألوفة في الوطن.
ويضاف إلى ذلك عامل خاص بالسياق السوداني: إذ لدى قطاع واسع من السودانيين تصورات راسخة عن أنفسهم مقارنة بالشعوب المجاورة، تقوم على شعور بالتفوق النسبي أو على الأقل التميز الثقافي والاجتماعي. هذه التصورات تتعرض لاهتزاز حاد عندما تفرض الظروف – وخاصة الحرب – اللجوء إلى دول مثل كينيا، أوغندا، إثيوبيا، أو إريتريا، على سبيل المثال فقط، حيث يواجه اللاجئون واقعًا مغايرًا لتصوراتهم السابقة، الأمر الذي يعمق الصدمة ويزيد من حدة التوتر النفسي والاجتماعي.
الهوية الجمعية
ترتكز الهوية السودانية في الشتات على روابط القرابة والانتماء القبلي أو الجهوي، ما يؤدي إلى تكوين “دوائر اجتماعية مغلقة” داخل الجاليات، تحد من فرص التفاعل الطبيعي مع المجتمع المستضيف.
التحيزات الإدراكية
يستمر كثير من السودانيين في تفسير السلوكيات والمواقف في المجتمعات الجديدة من منظور الخبرة السودانية المحلية، وهو ما قد يؤدي إلى إسقاطات خاطئة وسوء فهم متكرر.
الأبعاد الاجتماعية
المسافة الاجتماعية: وفق مقياس Bogardus، يُظهر السودانيون ميلًا أكبر للحفاظ على تفاعلاتهم داخل الجماعة، مع تدني مستوى بناء الروابط الضعيفة (Weak Ties) كما وصفها Granovetter، وهي ضرورية لاكتساب فرص عمل ومعرفة وخبرات جديدة.
التفاعل الاجتماعي المباشر: يميل السودانيون إلى نسج علاقات سريعة ومباشرة مع الأفراد في المجتمعات المستضيفة، مدفوعين برغبة في الانفتاح والاندماج. غير أن هذا التفاعل يتم أحيانًا دون مراعاة كافية للفروق الثقافية أو لاختلاف القوانين والأعراف المحلية، ما قد يفضي إلى مواقف لبس أو صدام ثقافي غير مقصود. وتشمل هذه الممارسات الميل للتحدث بصراحة وبصوت مرتفع عن شؤون الحياة العامة، بما في ذلك المسائل السياسية، في أماكن عامة، وهو ما يعكس ثقافة شفاهية ذات طابع انفتاحي، لكنه قد لا ينسجم دومًا مع حساسيات السياق المضيف.
إعادة إنتاج البنية السياسية: كثير من الجاليات السودانية تعيد تمثيل الانقسامات السياسية والجهوية الموجودة في الوطن، ما يعمق الانعزال ويعوق بناء هوية مشتركة مع المجتمع الجديد.
حاجز اللغة: ضعف إتقان اللغة المحلية أو الاقتصار على استخدامها في الضروريات اليومية يخلق حاجزًا إضافيًا أمام الانخراط الفعّال.
النتائج المترتبة
بطء الاندماج الاقتصادي، وضعف الوصول إلى شبكات العمل المحلية.
اندماج اجتماعي محدود، مع إقدام البعض على تعديل أو التخلي عن بعض الممارسات والسلوكيات التي تتعارض مع أعراف وقيم المجتمع المستضيف.
تراكم الصور النمطية السلبية المتبادلة بين السودانيين والمجتمع المضيف.
مقترحات للتعامل مع التحديات
تطوير المهارات العابرة للثقافات عبر برامج تدريبية.
إعادة تعريف الهوية بما يتيح تكوين هوية هجينة تجمع بين العناصر السودانية والمحلية (المجتمعات المستضيفة).
تعزيز الروابط الضعيفة من خلال الانخراط في أنشطة مشتركة خارج إطار الجالية.
تشجيع المشاركة المدنية في إطار القوانين المحلية.
إدارة الخلافات السياسية بين أفراد الجالية بما يمنع انعكاسها السلبي على مسار الاندماج.