العَــودَة لاسْـتَاد الهِــلال 

محمد عبد الماجد

في زمنٍ ما، كنا نتعمّد أن نكتب في البطاقة الشخصية قصاد السّكن: استاد الهلال ـ ليس لأنّنا نسكن في استاد الهلال، ولكن لأننا كنا نجد (السّكينة) في استاد الهلال والطمأنينة والراحة، والونسة اللذيذة.

كنا وقت يغلبنا الشوق بنجي نلف حول استاد الهلال من غير ما يكون عندنا موضوع ـ نشرب لينا شاي ونرجع بعد أن نَبِـلَ الشّــوق.

وكنا عندما نأتي في الإجازات للخرطوم، نقصد أن ندخل استاد الهلال من البوابة الشمالية، كان فيها عتق يجعل (شالاتنا) تتعطّر برائحتها الزكية.

وكنا نشرب الشاي والقهوة على جنبات الاستاد حتى نؤكد الزيارة ونحقق الجية، وقتها (السيلفي) كان عندنا يلتقط بالذاكرة ويبقى فيها غير قابل للمسح.

عيسى بروي غنى لبيوت الطين، واستقصدها عندما وصفها بـ(القديمي)، وكسرة الميم هنا تولد (الياء) قيصرياً، حسب لهجة أهلنا الشوايقة والمناصير والرباطاب، وهي دليل محبة وعطف وحنان، يكسرون الحرف الأخير في الكلمة حتى يولد (ياء) لينة، وحرف الياء في اللغة حسب تفسيري الخاص حرف (مَحَـنّة)، وحبوباتنا في كل أنحاء السودان عندما يجرفهن الحنين يفعلن ذلك ويجرن الكلمة بكسرها حتى لو وقعت فاعل.

يغني عيسى بروي تأكيداً على تلك المحبة:

بلاد الريد والمحنة بيوت الطين القديمي

سلام ليك يعم يطوفك يحلِّق في سماك ديمي

عندما تتمنى شيئاً لبلادك أو لمنطقتك أنت لا تتمنى لها أكثر من السلام (سلام ليك يعم)، لا يوجد في الأرض من يتمنى لأهله الحرب، هذا إن حدث فذلك اختلالٌ في الأخلاق.

قبل آلاف السنوات كان دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلدته بالأمن، يقول عز وجل: 

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنࣰا وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ) سُورَةُ إِبۡرَاهِيمَ: ٣٥

سيدنا إبراهيم جعل الدعاء للأمن يسبق الدعاء لتجنب عبادة الأصنام، أي الدعاء بالأمن سبق الدعاء بالشرك، وفي ذلك رحمة من رب العالمين لعباده (ٱلَّذِیۤ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعࣲ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ) سُورَةُ قُرَيۡشٍ  

وفي دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَـٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِیلࣰا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥۤ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِیرُ) سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٢٦

وهنا الأمن قبل الزرق، اللهم أنعم على بلادنا بالسلام واكفنا الحرب وشرها، واجعل الطمأنينة والسلام تهب نسماته وترفرف في كل أنحاء السودان وفي كل الربوع.. اللهم أعد لنا سلمنا وإلفتنا ومجتمعنا الذي نحب.

الناس عندما فقدوا السلام، فقدوا بيوتهم وثوراتهم وسيّاراتهم، فقدوا أرواحهم.

الدعاء بالأمن هو دعاء بالاستقرار والحياة والنمو والتطور والنجاح والخير.

سوف نظل نقول (لا للحرب)، وسوف ندعو للسلام ونروِّج له ليس في كتاباتنا فقط، بل في أنفاسنا أيضاً.. وهذا من منطلق ديننا (الحنيف) ومن تعاليم (الإسلام)، الذي جعل (السلام) في الصلوات، وجعل (السلام) اسماً من أسماء الله الحسنى وطالب الرسول عليه الصلاة والسلام أن نفشي (السلام) بيننا.. ونحن نقول الرسول عليه الصلاة (والسلام)، فماذا بعد ذلك؟

وفي حياتنا العادية، في تقاليدنا وطبائعنا نحن كذلك.

عيسى بروي يحكي عن الغربة ويسترجع مشاهد من بلاده: 

أشوف لي جنى بي حمارتو شادها كارب الصريمي 

يلكد فيها وينهر ويقشط فيها بي نيمي 

الحنين هنا يشدنا حتى لمشهد (الحمار).. يلكد، أي يضرب على بطن الحمار بقدميه.. يقشط هو أن ترفع السوط أو المطرق فتضرب به الحمار وتعمل الضربة صوت ـ نحن في كلامنا العادي بنقول (زح كدا قبل ما أقشطك سوط)، ونقول (قشطو كف) أو (قشطو شلوت).. والقشط فعل بقع مع التكشيرة.

ومشاهد عيسى بروي تعيدنا للبلد، هذا مشهد نألفه جميعاً:

هو لابس عراقي بلدي مكرب ولافي العميمي 

والعمة هنا عميمة، لأن الصبيان لا يلفون على رؤوسهم عمة كاملة، لذلك المشهد صادق.

أشوف تربال ماشي طالع بعد حشا عشا البهيمي 

وراهو التاني داك يعرج كراعو أظن مو سليمي

الغريبة إننا كلنا مررنا بهذه العرجة، وكلنا كرعينا كانت ما سليمة، هذه قواسم مشتركة في كل أنحاء السودان.

الجميل عندما يكون عندك غشوة لناس بتعزهم، لي خالتك أو عمتك.. هذا يصوره الشاعر أحمد سيد أحمد بلول:

وداك شاقق بي هناكا طلع بي ناس ود مريمي 

هو مخصوص شاقق بذلك الشارع عشان يزور ناس ود مريمي، يعني ود مريم.

وداك من الصباح قايم عجلان شايل كريمي 

وداك يخب ماشي أهلو عشان السما فيهو غيمي 

الخب هو زيادة السرعة في المشي، وقد كان ذلك في أغنية عيسى بروي عشان السماء شايل ويمكن تمطر والسقف كعب وما بستحمل ليه مطرة.

وداك يلاقيكا باسم كرم في طبعو صار شيمي 

يقول لك لا جوه قنب يكتر ليك العزيمي

بعيد عنك يا بلادي حياتي أنا ما ليها قيمي

داير أرجع ليكي يا بلادي وأضمك وأعيش فيك لاديمي 

إنّه السودان ـ قنب يعني أقعد، غير أن قنب أكثر حرارة وأقوى للدعوة والجلوس.. فيها (محنة)، وهي لا ترد عندما يقال لك قنب بتقنب.

يا زول قنب، مستعجل مالك؟

حالة الطمأنينة والسلام يقدمها حمّيد في (الرجعة للبيت القديم): 

أنا ماشي…

راجع…

لي بيوت 

تفتح لي أدق 

أو ما أدق

من غير تقول الزول منو 

ولا حتّى

علّ الداعي خير

لا مالك

الجابك شنو

هذه الطمأنينة (تفتح لي أدق أو ما أدق.. من غير تقول الزول منو) تلك حالة لا يمكن أن تحدث إلا في السلم، ونحن عندما نفقد ذلك الشعور، نفقد سوداننا، لأنّ حياتنا وطبائعنا قائمة على السلم الاجتماعي.

الناس عندما فقدوا سلمهم الاجتماعي، تركوا بيوتهم، وثرواتهم، وحتى الآن كثيرون لم يرجعوا، لأنهم فقدوا الطمأنينة.. عادت البيوت ولكن أهلها لم يعودوا حتى الآن.

هذه هي حياتنا ـ تباً للذين يريدون أن يبدلوها لنا بالرصاص والبارود والرماد ـ سوف يعود السودان كما نشتهي، لأن أهله يحملون هذه المبادئ والقيم والتقاليد في جيناتهم وفي دمائهم وفي أجيالنا القادمة.

قوات الدعم السريع حربهم كانت حرباً اجتماعية، حتى تكون العودة للسلم مستحيلة، قصدوا أن يزرعوا الفتنة والضغينة بين الناس، لكي تستمر هذه الحرب أطول وقت، لا تحققوا لهم رغباتهم في استمرار حرب لا يعنيهم فيها إلا حريق الوطن.

الناس ديل الحياة تقيف ما تقيف ما خسرانة معاهم في شئ، بل هم قصدوا إيقاف الحياة والنمو ـ قصدوا ضرب الاستقرار، في استمرار الحرب تحقيقٌ لأهدافهم ومخططاتهم، هم ما عاوزين أكتر من الحال يقيف.

استاد الهلال يمثل عندنا عودة الاستقرار، بل عودة الحياة، استاد الهلال يعيدنا إلى المشاهد التي تغنى لها بروي ـ استاد الهلال نحمله في الخلايا وفي العيون بتلك التفاصيل نحفظه، نشيله في جواباتنا الغرامية، ونتوسّد حكاويه في رقادنا.

يوم المباراة، وشغف الحجز وصف التذاكر، وتشكيلة الفريق، وحكم اللقاء.

مجلس إدارة الهلال في هذه الحرب تحمل تبعات كثيرة ـ حافظ على الفريق في ظروف صعبة، بل حدث تقدم في البطولات والانتصارات والإنجازات.. لا بد من مشاركة جماعية في تأهيل الاستاد، كثيرون قد لا يملكون أن يقدموا شيئاً، وربما لا تغني حصيلة التبرعات من شئ، لكن الغرض من ذلك إذكاء الشعور الجماعي وإعادة روح التكافل، نبحث عن النوايا الطيبة، الأعمال سوف تتحقق إذا كانت هنالك نوايا سليمة.

قلت إنّني أتمنى أن ينظم الهلال مهرجاناً شعبياً للعودة إلى استاد الهلال، على أن تكون العودة للاستاد بوضعه الحالي قبل بداية التأهيل، حتى يكون في ذلك رسالة وإشارة إلى ما أحدثته الحرب.

جمهور الهلال في العاصمة في شوق للهلال ـ بعد جولتي التمهيدي الأول لماذا لا يلتقي الهلال بجماهيره في استاده بوضعه الحالي والإعلان بعد ذلك عن بداية تأهيل الاستاد؟

لماذا لا نخلق من هذا الحدث مهرجاناً شعبياً، يكون الدخول فيه لاستاد الهلال بقيمة مادية محددة مساهمة من الجماهير في التأهيل ويلعب الهلال على أرضية ملعبه بوضعها الحالي مباراة استعراضية لمدة نصف ساعة، ويكون المهرجان منقولاً فضائياً، وتكون هنالك رعاية من الشركات لهذا المهرجان، وكل ذلك من أجل المساهمة في تأهيل الاستاد، لاعبو الهلال وخاصة الأجانب سوف يعرفون قيمة الفريق الذي يلعبون له، وسيكون في الحضور الجماهيري دافعاً وحافزاً لهم في مقبل المباريات والمنافسات.

أحلم أن يكون هنالك مزادٌ وهو أيضاً من أجل تأهيل استاد الهلال، لماذا لا نعرض قميص روفا الذي سجّل به في شباك المريخ هدفين وكذلك نفعل مع قميصه الذي سجّل به في المنتخب النيحيري، لماذا لا نعرض القميصين في مزاد، ويمكن أن يكون المزاد مفتوحاً عبر صفحة الهلال، من يرسى عليه المزاد وهو صاحب الرقم الأعلى يرسل القيمة عن طريق بنكك في رقم محدد، بعد إفادته بأنه صاحب المبلغ الأكبر، ويستلم من بعد ذلك (الفانيلة) بالإشعار، وما تفعله مع قميصي روفا التي أعتقد أن يأتيان بأموال كبيرة يمكن أن نفعله مع قمصان الغربال القائد الذي حقق هذه الإنجازات وحمل تلك الكؤوس، كذلك لقميص جان كلود قيمة، وغيره من القمصان، الهدف من ذلك ليس المال فقط، وإنما إعادة روح المشاركة والمساهمة. 

وقميص التتويج بالدوري الموريتاني كبطل شرفي للمنافسة.

مجلس الهلال يجب أن يطرح رقم حساب بنكك للمساهمة في تأهيل الاستاد ـ روابط الهلال في الخارج يمكن أن تسهم وتقدم الكثير، وهي تملك المال والفكر والعشق للهلال والسودان.

تأهيل استاد الهلال وعودته للخدمة من جديد، ليس الهدف منه استاد الهلال وحده ـ النجاح في تأهيل استاد الهلال سوف يقود الآخرين لتأهيل كل المرافق، بما في ذلك المرافق الحكومية.. ستعود استادات “الخرطوم والمريخ والتحرير وود نوباوي”.. نحن نحتاج فقط للبداية.

المال لن يكون مشكلة أو عقبة إذا كنا نملك الفكر.

هذه الحرب أهزموها بعودة الحياة والاستقرار، أهزموها بالتأهيل والبناء والتعمير.

ما في خراب بتصلح بالبوستات، ولا في دمار بينتهي بالكلام، لا بد من خطوات حقيقية في البناء والتأهيل.

القصد من ذلك والهدف هو ليس تأهيل استاد الهلال وحده أو المرافق التي دمرتها الحرب ـ الهدف من ذلك هو تأهيل النفوس وإعادة روح التكافل والعمل.

هنالك أعمال لا تتم إلا إذا كان هنالك تعاضد جماعي ـ الأوطان لا تبنى بالأفراد، الأوطان تبنى بالجماعة.

الحرب لم تدمر المرافق العامة فقط، الحرب دمرت النفوس، والتأهيل يبدأ من النفوس ـ يبدأ من العقول التي مازالت تدعو للحرب وتشعل في نار الفتنة والغبينة والكراهية.

الهلال هو نادي الحركة الوطنية، حبنا له وانتماؤنا له لم ينتج من كونه نادياً رياضياً لكرة القدم ـ حبنا له ناتج من كونه نادي الحركة الوطنية.. لذلك بداية التعمير والتأهيل يجب أن يبدأ من الهلال.

لا بد أن تكون هنالك ترتيبات للعودة إلى استاد الهلال ـ ضروري أن يشرع شعب الهلال في تأهيل الاستاد ـ مجلس إدارة الهلال عليه أن يبدأ في ذلك ولو عن طري إطلاق مبادرة لإعادة تأهيل استاد الهلال.

فكوا رقم بنكك للمساهمة في تأهيل الاستاد.

مجلس الهلال الحالي تبقى له عام أو أقل من عام وتنتهي دورته، يكون جميلاً منهم لو أنجزوا فيما تبقى من فترتهم إعادة تأهيل استاد الهلال ليحسب لهم ذلك ـ وفي الغالب نفس المجلس سوف يعود من جديد بعد النجاحات التي حققها.

لا تتركوا استاد الهلال خرابة، عودوا إلى استادكم، والهلال لن يجد راحته ونفسه إلا في ملعبه.

متاريس

لماذا لا نخطط لكي يلعب الهلال في حال التأهُّل إن شاء الله لمرحلة المجموعات، مبارياته في استاده؟

كذلك لا بد للحكومة أن تشرع في خطوات فعلية في فتح مطار الخرطوم وعودة الفنادق للخدمة.

عودة الكهرباء والمياه شئ لا بد منه لكي يعود الناس.

الموضوع ما كلام ولايفات.  

لا تتركوا الخرطوم خرابة ـ الانتصار في الحرب سوف يتم عبر التعمير والبناء.

العدو بقصد أن يبقى الخراب على ما هو عليه.

المصانع والمستشفيات والجامعات والمدارس والاستادات والمسارح لازم تفتح.

لكن للأسف الشديد نحن لا عندنا ناس بخططوا، ولا عندنا ناس بفكروا، ديل طابت ليهم حياة الفنادق في بلدهم.. تاني ما برجعوا بيوتهم.

لكن الله غالب.

… 

ترس أخير: فلتَكُـن البِدَايَة مِـن اسـتَاد الهِـلال.

Exit mobile version