شمال دارفور، 16 أغسطس 2025، (سودان بكرة)- كأن القدر كتب عليهم الفرار والتهجير والحياة وسط بؤس وخوف دائم. النازحون في (مخيم زمزم)، الذي يقع على بعد 15 كلم جنوب الفاشر، كان ملاذا لمئات الآلاف من المدنيين الذين فروا من النزاع في دارفور منذ أكثر من عشرين عاما، لكن من ظنوا أنه موقع أمنهم تحول فجأة إلى مسرح لكارثة إنسانية جديدة، أُلقي عليها ستار من الصمت الدولي، بعد هجوم قوات الدعم السريع والسيطرة عليه، وتعرض النازحين لصنوف من الانتهاكات، ليختفى المخيم من على خريطة المساعدات والإغاثة، تاركا وراءه آلاف القصص المأساوية التي لم تُروَ بعد.
مخيم كان “مدينة” في قلب الصحراء
تأسس مخيم زمزم في عام 2004، ليصبح على مر السنين واحدا من أكبر مخيمات النزوح في السودان. حيث كان يضمّ، قبل الحرب وتصاعد النزاع في عام 2023، أكثر من 120.000 نازح. ومع بداية عام 2024، تزايد العدد ليُقدّر بين 500,000 و 700,000 نازح، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. ويشكل المخيم مجتمعا مصغرا يضم أسواقا ومراكز صحية ومدارس مدعومة من منظمات إنسانية دولية ومحلية.
وخلال فبراير ومارس 2025 تغيرت الصورة بالكامل، حيث تصاعدت الهجمات على (مخيم زمزم) والمناطق المحيطة، ما أدى إلى تعليق منظمة (أطباء بلا حدود) لأنشطتها بما فيها المستشفى الميداني بالمخيم. إلا أن الهجوم الأكبر الذي دام لثلاثة أيام، 11- 13 أبريل 2025 كان الأعنف، وأسفر عن مئات القتلى يقدر عددهم بأكثر من 400 شخص، وفرار نحو 400,000 من سكان المخيم إلى مناطق أخرى، تاركين وراءهم كل ما يملكون. وتشير التقارير إلى أن المهاجمين نهبوا وحرقوا الممتلكات، وحولوا المخيم إلى منطقة خالية من الحياة.
شهادات من قلب الكارثة
النازحون يروون التدهور في أحوالهم من بدايات الفرار من الحرب، حين كانت المساعدات الغذائية والسكنية متوافرة، على عكس الوضع اليوم، إذ انقطع الغذاء والخيم، وفُقد الأمن معهما.
يروي محمد يوسف، 65 عاما، والذي نزح من (مخيم زمزم) إلى منطقة (طويلة)، قصة أيامه الأخيرة في المخيم بصوتٍ يملؤه الألم: ” كنا نعيش في خوف دائم، لكننا لم نتوقع أن يأتي اليوم الذي نضطر فيه إلى ترك كل شيء.. رأيت بأم عيني كيف كانوا يطلقون النار عشوائيا على الناس.. كنا نركض ونحن لا نعرف إلى أين نذهب “. ويضيف محمد يوسف: “هذه ليست المرة الأولى التي أُهجّر فيها، لكنها الأكثر قسوة.. في السابق كانت هناك خيم، طعام، ومساعدات.. اليوم، ليس لدينا شيء، ننام تحت الأشجار، ونأكل مما نجده.. لا أحد يهتم بنا”.
وفي داخل مدينة الفاشر، تعيش فاطمة علي، التي نزحت من المخيم مع أطفالها الثلاثة، حياة جديدة من المعاناة. تقول: “كنت أبيع الشاي في المخيم لأُطعم أولادي.. الآن لا أستطيع الخروج من المنزل خوفا من القتل أو الاغتصاب.. ليس لدينا طعام، ولا مال.. أطفالي يبكون من الجوع، وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئا لهم”.
ووفقا لصحيفة (الغارديان) أكدت كلير نيكوليه، نائبة رئيس قسم الطوارئ في منظمة (أطباء بلا حدود)، إن الهجوم استهدف “أحد أكثر الشعوب ضعفا على وجه الأرض”. وأشارت إلى أن من نجا منهم تعرض لـ “عمليات نهب واسعة النطاق، وعنف جنسي، وهجمات أخرى أثناء الطريق، بالإضافة إلى أوضاع معيشية مروعة في مواقع النزوح المؤقتة”.
الانتهاكات ضد النساء
نزحت “أمينة” من (مخيم زمزم) بسبب العنف، إذ تعرّضت للاغتصاب من مسلحين أثناء محاولتها العودة إلى منطقتها بعد سقوط المخيم. ووفقا لشهادتها، كان المهاجمون يختارون الفتيات الصغيرات ويطلقون النساء الأكبر سنا، وهو ما وصفته بـ”الأمر الفظيع”.
تُعاني فاطمة حاليا من اضطرابات نفسية حادة نتيجة للصدمات المتكررة والانتهاكات الجسيمة التي تعرضت لها، وتؤكد أن غياب الحماية وانعدام الأمن جعل النساء أهدافا سهلة أثناء التنقل والفرار.
ووثقت (الغارديان) أن أعدادا كبيرة من النساء قد اختُطفن وما زلن في عداد المفقودين، وهناك أكثر من 20 امرأة نُقلن إلى نيالا، المعقل الرئيسي لقوات الدعم السريع، والواقعة على بعد 160 كيلومتر من زمزم.
أرقام تُخجل الصمت
تقدم الأرقام التي وثّقتها المنظمات الإنسانية صورة أكثر وضوحا لحجم الكارثة. وفقا لشبكة (صيحة) SIHA، وصل عدد القتلى المدنيين الموثقين حتى 13 أبريل إلى نحو 330 شخصا، من بينهم 42 امرأة، إضافة إلى 200 امرأة مصابة وعدد من الأطفال. هذه الأرقام هي مجرد جزء من الصورة الكاملة، فعدد الضحايا الفعلي يقدر بأكثير من ذلك.
ويُظهر تقرير للأمم المتحدة أن الأزمة الغذائية في المخيم وصلت إلى مستويات حرجة، حيث كان نحو نصف السكان يعانون من نقص الغذاء قبل الهجوم. ومع تشتت النازحين في مناطق جديدة لا تتوفر فيها المساعدات، من المتوقع أن تتفاقم هذه الأزمة.
وتؤكد التقارير أيضا أن أكثر من 825,000 طفلا في المنطقة أصبحوا معرضين للخطر الشديد بسبب النزوح، ونقص الغذاء، وتوقف الخدمات الصحية والتعليمية. هذه الأرقام تُشير إلى جيل كامل يُدمّر مستقبله بسبب النزاع.
موقف المنظمات الإنسانية والحاجات العاجلة
كانت المنظمات الإنسانية تعمل بجهد داخل المخيم لتقديم المساعدات، لكن بعد الهجوم، توقفت أعمالها، وانقطع التواصل مع الكثير من النازحين. “كنا نقدم المساعدة الغذائية والصحية لمئات الآلاف من الأشخاص، لكن اليوم لا نعرف مصيرهم.. نحن قلقون للغاية من أن الكارثة التي كنا نخشاها قد وقعت بالفعل”، يقول أحد العاملين في منظمة إغاثية كانت تعمل في المخيم.
يُشير العامل إلى أن الحاجة الملحة الآن هي التدخل العاجل من المجتمع الدولي لفتح ممرات آمنة للنازحين، وتوفير المساعدات الإنسانية في المناطق التي فروا إليها، والضغط على الأطراف المتنازعة لحماية المدنيين.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من إعداد (سودان بكرة) حول قصة (مخيم زمزم) تُعبر عن الانتهاكات وما تعرض له من تحديات، لأكبر مخيم للنزوح في البلاد، في ظل غيابٍ شبه كامل للمتابعة الإعلامية والدعم الدولي. وهي معاناة تتفاقم مع مضي الوقت وفقدان الأمن، ما يتطلب تحركا عاجلا للحؤول دون تجدد كارثة إنسانية تُهدد مئات آلاف النازحين.