خلف الصراع المسلح في السودان عبئاً نفسياً فادحاً لم يبارح عقول معظم الناجين منه، بخاصة النساء والفتيات، حيث توجد نسبة كبيرة منهن تحمل إحباطاً وانعزالاً وأرقاً وغضباً، مما يمثل جزءاً من المشكلات النفسية والعصبية والاجتماعية التي قد تصبح لصيقة بحياتهن في المستقبل.
وظلت النساء والفتيات السودانيات اللاتي يشكلن ركيزة المجتمع يدفعن فاتورة باهظة بتعرضهن لصور متعددة من الانتهاكات الجسيمة، إذ واجهن القصف العشوائي المتبادل بين طرفي النزاع، إضافة إلى مشاهدة الدمار والموت ونهب الممتلكات والتهجير القسري، فضلاً عن عمليات الاغتصاب، هذا الواقع المؤلم تسبب في حدوث آثار وصدمات نفسية لدى كثير من النساء، وأصاب بعضهن بالاكتئاب والقلق والخوف واليأس والأرق فضلاً عن الانتحار.
أزمة مستشفيات العلاج النفسي
وسط هذه الأجواء، تعاني البلاد من أزمة مستفلحة في مستشفيات العلاج النفسي بخاصة بعد نهب وسلب وتدمير وتخريب مستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية والعصبية بأم درمان، وهو المستشفى الحكومي السوداني المرجعي الوحيد في هذا التخصص.
وبسبب الحرب فإن مستشفيات الأمراض النفسية على قلتها قد أصيبت في مقتل، إذ تعرض أكثر من واحد للتخريب مثلما حدث لمستشفى طه بعشر بمدينة بحري.
انعزال وإحباط
تشهد مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان إعلانات عن كثير من الحالات لمرضى فاقدي الوعي، بخاصة كبار السن من النساء، تائهات في الطرقات.
تصف الطالبة الجامعية ميادة سعد في حديثها لمنصة (مشاوير)، أوضاع بعض الناجين من الحرب بالمأسوية نظراً إلى تعرض عدد منهم إلى صدمات نفسية قاسية، مطالبة بـ”وقف القتال العبثي وإعادة الأمن والاستقرار إلى السودان.
وتوضح أن “المعارك الشرسة بالقرب من ضاحية بري بالخرطوم خلال الأشهر الأولى للحرب تركت أثراً كبيراً في نفسي، فقد كنت أفكر في اللحظة والطريقة التي سيتم بها قتلي وأهلي في أي لحظة بعد تساقط الرصاص ودوي المدافع بشكل متواصل من دون ما انقطاع، وعلى رغم مغادرتي العاصمة إلى منطقة آمنة فإنني ما زلت أشعر بالخوف، وأصبحت أخشى أي صوت قوي، وأبقى أحياناً في عزلة تامة أو أدخل في حداد مطول على فقدان المنزل، وزاد من ذلك شعوري بعدم الاستقرار.
تتحسر الطالبة على توقف الدراسة وتهديد مستقبلها في ظل الظروف الحالية، وتشير إلى أن “حياتها توقفت وشعرت بالإحباط واليأس من توالي الصدمات”، كاشفة عن سعيها للعلاج في أحد مستشفيات الطب النفسي خارج السودان ومقابلة متخصصين لتلقي الدعم النفسي.
استجابة محدودة
في ذات السياق، تقول المتخصصة النفسية عفاف عمر لمنصة (مشاوير) إن “الاضطرابات النفسية تهدد حياة مئات النساء ومستقبل كثير من الطفلات في ظل الاستجابة المحدودة للمنظمات الدولية لهذا التهديد، باعتبار أنها تركز أنشطتها على معالجة الآثار الرئيسة للنزاع وتتجاهل المصابين بصدمات نفسية وحالات مشابهة، وعلى رغم هرب الآلاف من مسرح القتال فإن بعضهم يحتاج إلى الدعم النفسي.
ونبهت إلى أن “أبرز الحالات تعاني أمراضاً عصبية مثل الاكتئاب الحاد والهلع وقلق ما بعد الصدمة والهستيريا والتبول اللاإرادي والنشاط الزائد وكوابيس النوم والتأتأة لدى الطفلات.
وفي شأن الفئات التي تعرضت لصدمات واضطرابات، تنوه عفاف إلى أن “أكثر المتضررين نفسياً هم الأشخاص الأضعف وغير القادرين على الاستجابة للضغوط، خصوصاً النساء والأطفال وذوي الإعاقات.
وتحذر من إهمال هذه الفئات وعدم استحداث أقسام وعيادات لتقديم استشارات ودعم نفسي، لأن تداعيات آثار الحرب على الصحة النفسية للسودانيين ستلقي بظلالها لسنوات على كثيرين، مما يستوجب اتباع نهج شامل وطويل الأمد لتوفير خدمات معالجة المشكلات النفسية التي تلوح في الأفق.
مشكلات ومخاطر
تشير الباحثة الاجتماعية والنفسية رماح الطاهر في حديثها لمنصة (مشاوير) إلى أن “إهمال علاج المتأثرين بالصدمات والاضطرابات يضاعف من مخاطر إصابتهم بأمراض مزمنة مثل الاكتئاب والسلوكيات الاندفاعية، ويرفع معدلات النزوع للانتحار لدى البعض، بخاصة إذا لم تتم الاستجابة لمعاناتهم على النحو السليم، كما أن تحمل الصدمة يختلف من شخص لآخر لأن هناك فروقاً فردية بين البشر.
وتضيف أن “أطفالاً لا يزالون خائفين على رغم هربهم إلى مناطق آمنة، والتعافي لن يتم بين يوم وليلة، فهناك صدمات نفسية وقتية مثل الإغماء والهلع يمكن أن تصل حد الموت، وهو ما حدث في الأسبوع الأول من الحرب في واقعة وفاة طفلة خوفاً نتيجة رؤيتها مشاهد مؤلمة.
وتوضح الطاهر أن “كبار السن تأثروا بالتداعيات النفسية والاجتماعية للحرب، كما أن هناك أطفالاً يعانون التبول اللاإرادي والفزع أثناء النوم، إضافة إلى حركة الجسد والأطراف.
تداعيات مستمرة
على الصعيد نفسه، أشارت الناشطة والحقوقية جواهر فضل في حديثها لمنصة (مشاوير) إلى أن “الحرب تسببت بأكبر أزمة إنسانية في التاريخ الحديث، وتزايدت تداعياتها بسبب استمرارها، لا سيما أن النساء والفتيات السودانيات دفعن فاتورة باهظة، إذ واجهن صوراً متعددة من المعاناة وتأثرت نفسياتهن بالصدمات الناتجة من الشعور الدائم بالخوف والقلق والتوتر، بسبب أعمال العنف الجنسي والاسترقاق والاختطاف والاستعباد الجنسي واستخدام أجساد النساء والفتيات سلاحاً في الحرب. فهذه الأزمات التي عاشتها النساء تكابلت عليهن ما ما بين إصابة بعضهن بشظايا المدفعية ودمار المنازل وسرقتها، التي شكلت بدورها هاجساً نفسياً وحسرة يصعب تجاوزها، علاوة على تحمل أخريات الواجبات المعيشية لأطفالهن وهن في حال من النزوح ومصير مجهول.
وأردفت “كذلك كبدت الحرب النساء قدراً كبيراً من الخسائر الاقتصادية على مستوى الوظائف وفقدان مصادر الدخل، مما دفعهن إلى طرق أبواب الإغاثة والمساعدات، لكن الخسارة الأكبر كانت في مناطق الريف كون النساء يعملن في مجال الزراعة والرعي والأعمال الحرفية.
وتابعت “الانتهاكات أصبحت أداة إجرامية لإذلال النساء خصوصاً الاغتصاب الذي تمتد آثاره النفسية أعواماً طويلة، وهو ما يحتاج إلى علاج من المضاعفات الصحية وغيرها، لكن الحاجة المؤلمة أن هذا الانتهاك (الاغتصاب) قاد بعض النساء وأفراد من الأسرة للانتحار، بل بعضهم تعرض للقتل من قبل رب الأسرة.