ثمن الحقيقة في حرب السودان .. الصحفيون بين الاغتيال والاعتقال والهجر القسري

منتدى الإعلام السوداني

عيسى دفع الله

الخرطوم، 20 أغسطس 2025، (جبراكة نيوز) – مع اندلاع شرارة الحرب في الخرطوم، وجد الصحفي علي العرش نفسه مضطراً للنزوح الى مدينة سنجة، مسقط رأسه وعاصمة ولاية سنار جنوبي العاصمة السودانية. وهناك، وقبل أن تمتد نيران الصراع إلى ولايتي الجزيرة وسنار، كان علي يمارس مهنته الصحفية، ولكنه لم يترك لحاله، ويقول : “بسبب تقاريري الصحفية التي كشفت الإنتهاكات وفضحت التقصير والقمع، تم اعتقالي في 21 أغسطس 2023 من قبل جهاز المخابرات في ولاية سنار .. قضيتُ أكثر من ستة أيام في المعتقل، تعرضت خلالها لتهديدات متواصلة، وتعذيب، ومنعت من مقابلة أسرتي ومزاولة عملي ” .

ويحكي علي العرش بداية معاناته وموضوعات تغطياته التي قادت لملاحقته : “عايشت عن كثب فصولًا من مأساة إنسانية لم أكن أتصوّر وقوعها داخل دور ومراكز الإيواء، التي كانت ملاذاً لآلاف النازحين الفارّين من أهوال الحرب “.

من خلال مقابلاته داخل هذه المراكز، وشهادته على الأوضاع الكارثية التي يعيشها النازحون، تبيّن للعرش أن الواقع يفوق الوصف. فهؤلاء يعيشون في ظروف مزرية، محرومون من أبسط مقوّمات الحياة، في ظلّ تقصير واضح من السلطات. لم تقتصر المعاناة على الحرمان المادي، بل امتدت إلى مضايقات مستمرة، وتصنيفات عنصرية تعكس طبيعة هذه الحرب ..” .

يضيف علي : “وسط هذا الخراب، لمع نجم المتطوّعين الذين أنشأوا غرف طوارئ شكلت قوارب نجاة للهاربين من جحيم الحرب، حيث وفّروا لهم الغذاء والعلاج والمأوى. كانت تلك المبادرات الشعبية، القائمة على الجهود الذاتية والشراكات مع منظمات محلية وأفراد خيرين، شريان حياة حقيقيًا للآلاف ” . ولكن، قوبلت هذه الجهود الإنسانية بالتضييق والمنع، بل وصل الأمر إلى اعتقال بعض المتطوعين وإغلاق تلك الغرف الحيوية ” . 

ويقول العرش : ” لم تتوقف الانتهاكات عند حد اعتقالي ؛ إذ داهمت السلطات منزل أسرتي في الثانية صباحًا، للمرة الثانية، وتم اعتقال شقيقي الأصغر وابن عمه كـ”رهائن” للضغط علي لتسليم نفسي ” .

مخاطر ميدانية

يقول الصحفي علي العرش إن ما مرّ به ليس حادثًا فرديًا، بل يمثل نمطًا متكرّرًا من المخاطر التي تهدد الصحفيين في مناطق النزاع، وعلى رأسها الاعتقال التعسفي والاحتجاز دون مسوّغ قانوني، في محاولة لتكميم الأفواه ومنع كشف الحقائق.

ويؤكد أن الصحفيين يواجهون أيضًا الاختطاف والإبتزاز من أطراف النزاع، إضافة إلى القتل والاغتيال، خاصة الذين يغطون جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. كما تُمارس ضدهم التهديدات والترهيب، والمراقبة، والمضايقات الرقمية، وحملات التشويه على الإنترنت.

وأعلنت نقابة الصحفيين السودانيين، تسجيل 556 انتهاكاً ضد العاملين في وسائل الإعلام، بما في ذلك مقتل 31 صحفياً “في حوادث اغتيال وقصف مباشر” خلال عامين من الحرب. وأفادت في التقرير الذي صدر في مايو الماضي، باعتقال واحتجاز ما لا يقل عن 239 صحفياً، في حين واجه العشرات الضرب والإساءة والمضايقة والتهديدات، مسجلة 556 انتهاكاً. 

وذكرت منظمة مراسلون بلا حدود أن التهديدات التي يتعرض لها الصحفيون في السنوات الأخيرة، ازدادت مع ظهور ميليشيات وحركات مسلحة جديدة.. ويخضع الصحفيون الذين ينتقدون السلطات أو ينشرون وثائق حساسة للمراقبة. وتتعرض الصحفيات، على وجه الخصوص، للترهيب والتهديد أو الانتقام. ويحظى أولئك الذين يضايقون الصحفيين ويعتدون عليهم بحماية السلطات ويتمتعون بالإفلات التام من العقاب. ومنذ بدء الحرب في 15 أبريل 2023، تعرضت مباني بعض وسائل الإعلام للهجوم والنهب، وتزايدت الهجمات والإنتهاكات ضد الصحفيين بشكل كبير، مما أجبر الكثير منهم على الفرار خارج البلاد. 

من مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، يقول الصحفي محمد أحمد نزار: ” تم اعتقالي بعد أن نشرت خبرًا عن إطلاق ضابط يتبع لحركة تحرير السودان (المجلس الانتقالي)، النار على الزميل الإعلامي نصر يعقوب في سوق نيفاشا” . 

وأضاف: “الإعتقال إساءة .. إن وجد الشخص فرصة للخروج فليفعل، الخروج هو الحل مهما كانت التحديات، خاصة مع تدهور الأوضاع .. أنا مصاب بشظية في ساقي، والحياة أصبحت صعبة للغاية وسط تهديدات متواصلة وهشاشة أمنية، وظروف معيشية قاسية.. كثير من الشباب لا يجدون حتى وجبة واحدة يوميًا ” . 

بين الإستهداف الممنهج والإتهام بالتجسس  

يرى الصحفي عبدالعظيم قولو، من ولاية شمال دارفور، أن استهداف الصحفيين في مناطق النزاع أمر معقد ومتعدد الأوجه. ويقول: “لا يمكن تصنيف الإنتهاكات بأنها ممنهجة دائمًا أو عرضية فقط.. غالبًا ما تكون مزيجًا من الاثنين، حسب الدوافع والظروف” . وأوضح أن الاستهداف في كثير من الأحيان يكون متعمدًا ومخططًا له، بهدف إسكات الصحفيين الذين يسعون إلى كشف جرائم الحرب أو فساد الأطراف المتنازعة. وأضاف : ” كثيرًا من الإنتهاكات تهدف إلى التحكم في السرد الإعلامي ومنع وصول المعلومات المستقلة إلى الجمهور ” . وأشار قولو إلى أن بعض الصحفيين يُصنفون كأهداف عسكرية، أو يُتهمون بالتجسس، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي الإنساني.

رئيس رابطة الصحفيين السودانيين في أوغندا، عزالدين أرباب، يقول : “هناك استهداف ممنهج للصحفيين في كل مناطق السودان، ولا يقتصر الأمر على مناطق محددة.. الصحفيون يعيشون تحت ضغط مستمر بسبب التهديدات التي تطالهم وأسرهم، مما يؤثر على قدرتهم في أداء مهامهم ” . وأشار إلى أن الصحفيين في مناطق سيطرة الجيش أو الدعم السريع يواجهون قيودًا صارمة تمنعهم من نشر تقارير وتحقيقات محايدة، مضيفًا أن مجرد حمل الكاميرا أو التصوير قد يعرض الصحفي للاعتقال. 

وأكد أرباب أن كثيرًا من الصحفيين قرروا التوقف عن ممارسة المهنة، واتجهوا لأعمال أخرى كالتجارة والعمل اليدوي، بسبب الخوف من الاستهداف من كلا الطرفين .وقال : “المشكلة أن الطرفين في مناطق النزاع يعتبران أن الصحفي الذي لا يؤيدهما بشكل مطلق هو ضدهم ويعمل لصالح الطرف الآخر، وهذا أمر بالغ الخطورة ” . 

سكرتيرة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، إيمان فضل السيد، تقول إن الاستهداف الذي يتعرض له الإعلام منذ إندلاع الحرب في السودان ممنهج، مشيرة إلى وجود ملاحقات للصحفيين والصحفيات بأشكال مختلفة.

4 قتلوا داخل المعتقلات وآخرين هجروا المهنة

وأرجعت إيمان اعتقال عدد من الصحفيين إلى خلفياتهم المهنية، موضحة أن معظمهم تم اعتقالهم من نقاط التفتيش أثناء تنقلهم مع أسرهم من المناطق الملتهبة إلى المناطق الآمنة . وأضافت أن التعرف على هوية الصحفي من خلال بطاقته المهنية يؤدي في كثير من الأحيان إلى اعتقاله لهذا السبب تحديدًا .وأكدت إيمان مقتل أربعة صحفيين داخل المعتقلات.

كما أشارت إلى أن الصحفيين الذين نزحوا داخل السودان وواصلوا عملهم في ملفات صحفية بولايات مثل القضارف وكسلا، تعرضوا أيضًا للملاحقة والاعتقال، مضيفة أن هذه الملاحقات طالت حتى المصادر الصحفية.

وقالت إيمان إن معظم الصحفيين الذين عملوا في ملفات تتعلق بمراكز الإيواء، وأجروا مقابلات مع مصادر داخل هذه المراكز، تعرضوا لضغوط، إذ تقوم الجهات الأمنية بمداهمة المراكز واعتقال المصادر والتحقيق معهم لمعرفة أسماء الصحفيين الذين تواصلوا معهم. وأوضحت أن هذه الممارسات تحدث حتى في مناطق سيطرة الجيش السوداني، حيث لا يُسمح للصحفيين بتجاوز الخط التحريري الذي تحدده الجهة المسيطرة.

وأضافت فضل السيد أن عددًا كبيرًا من الصحفيين اضطروا إلى هجر المهنة، بينما يعمل البعض من خارج السودان، وحتى هؤلاء لم يسلموا من التهديدات. وذكرت أن هناك من تركوا العمل الصحفي نهائيًا، وآخرين فرضوا على أنفسهم رقابة ذاتية حتى على حساباتهم الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي. وخلصت إلى أن هناك عزوفًا متزايدًا عن التعبير عن الرأي أو العمل في المجال الصحفي، نتيجة للتهديدات المتواصلة التي يتعرضون لها.

إنعدام الحماية 

وقالت الصحفية زمزم خاطر إن الاستهداف الممنهج للصحفيين في مناطق النزاع يهدف إلى ترهيبهم وإسكات الأصوات التي توثق للانتهاكات أو تدينها. وأضافت أن أطراف النزاع لا ترغب في وجود صحفيين مستقلين؛ لذلك، يصبح الصحفي في مناطق النزاع مجبرًا على الانحياز لأحد الأطراف المسيطرة لحماية نفسه من المخاطر التي قد يتعرض لها، مثل الاعتقال، أو الاختطاف، أو الإخفاء القسري، أو التعذيب. وأشارت إلى أن بعض الصحفيين قُتلوا في مناطق معينة بالسودان. واعتبرت أن أقسى ما يمكن أن يواجهه الصحفي هو أن يضطر للهروب حفاظًا على حياته.

وأضافت ” لا توجد جهة قادرة على توفير الحماية لأي مدني، فضلًا عن الصحفي، لأن النزاعات المسلحة تفتقر إلى الأخلاق ولا تلتزم بالعهود والمواثيق الدولية التي تضمن حماية المدنيين.. ” .

المجتمع المدني ما زال قادراً

وأشارت خاطر إلى أن المنظمات والروابط المهنية لديها القدرة على الضغط على أطراف النزاع لحماية الصحفيين. واستدلت على ذلك بإطلاق سراح الصحفيين نصر يعقوب ومحمد أحمد نزار في مدينة الفاشر، والذي جاء نتيجة للضغط الكبير والمناصرة من الصحفيين السودانيين والمجتمع المدني.

ويرى الصحفي على العرش أن الأمر يتطلب جهودًا تكاملية تشمل الصحفيين أنفسهم، والمؤسسات الإعلامية، والمنظمات الدولية، لتوفير التدريب على السلامة والأمن، والإسعافات الأولية، وكيفية العمل في بيئة ومناطق النزاع. 

فيما يرى عز الدين أرباب أن حماية الصحفيين تتطلب ضغوطًا دولية متواصلة، وتضامنًا مهنيًا من الزملاء والزميلات في مواجهة محاولات إسكات الصحافة الحرة . ودعا لإطلاق حملات مناصرة مستمرة لكشف هذه الإنتهاكات أينما حدثت .

ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (جبراكة نيوز) لكشف حجم الاستهداف والانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون السودانيون منذ اندلاع الحرب. ويوثق أنماط القمع من اغتيال واعتقال وتعذيب وملاحقة أسرية ورقمية لإسكات الأصوات المستقلة. ويبرز غياب الحماية واستفحال الإفلات من العقاب الذي يدفع كثيراً من الصحفيين لترك المهنة، ويدعو إلى التضامن والضغط المحلي والدولي لضمان حماية الصحفيين وصون حرية الإعلام.

Exit mobile version