هذان السيدان، لماذا يتمسحان الآن بأذيال الجيش؟!

الجميل الفاضل 

أستطيع أن أتفهم لماذا يتسابق اليوم نجلا آخر الزعماء السياسيين الكبار، الصادق المهدي، لخطب ودّ الجيش؛ الحارس الأول لدولة السودان القديم، وحائط صدها الأخير، وأقوى ركائزها وأوتادها، حتى الآن على الأقل، في وجه عاصفة الحرب التي زلزلت كيان هذه الدولة الموروثة، منذ يوم الجلاء ورفع العلم، وتسليم وتسلم “صحن الصيني” الذي “ليس به شق ولا طق”، وما تبع ذلك من سودنةٍ لوظائف وهياكل هذه الدولة الاستعمارية، للقيام بذات أدوارها ومهامها كما هي: نهجًا، وأسلوبًا، وممارسة.

 

بل أجد من الطبيعي جدًا أن يتمسّح اليوم “الجنرال عبدالرحمن” و”المهندس صديق” بأذيال الجيش، في مواجهة خطر عاصفة الحرب التي قد تقتلع أشجار نسب مؤسطرة، بدأت تدبّ الشيخوخة في أوصالها.  

 

وربما خشيةً من أن تتبدد، تحت وطأة رياحها، أساطير كثيرة ظلّت تُضفي على سادتنا وكبرائنا، وصغارهم – قداسةً وتوقيرًا زائفًا، توارثته أصلابهم جيلًا بعد جيل.

 

فالحروب، بطبيعتها، تنتج وعيًا مغايرًا، يمهّد السبيل – في أغلب الأحيان – لحدوث تغيير أكثر عمقًا وحسمًا وجذرية.

 

المهم، فإن ما يجري اليوم حول السودان، وفيه، وما بين أهله، أعقد بكثير من مجرد النظر إلى سطح الأحداث الجارية على أرضه، منذ اندلاع ثورة شعبية سلمية في ديسمبر من العام 2018، لم تستطع استكمال الأشراط الضرورية اللازمة لتحقيق كامل أهدافها في التغيير.

 

وقد قادت تفاعلات هذا الواقع المحتقن، الذي أفرزته الثورة، إلى تطورٍ في الصراع بين قواها الحية، وقوى الثورة المضادة التي ظلت تقاوم، بشتى السبل والوسائل، في الخفاء وفي العلن، كل محاولة لاستكمال غايات هذه الثورة.

 

ومع تصاعد هذا الصراع المكتوم، انفجرت الأوضاع تلقائيًا في صورة صراع دموي عنيف عام 2023، اتخذ طابع الحرب الشاملة.

 

لكن من رحم هذه الحرب نفسها، وُلد دستور علماني فيدرالي، تواثقت عليه مجموعة “تحالف السودان التأسيسي” في نيروبي.  

 

وللحقيقة، فإن هذا الدستور نشأ – أول ما نشأ – ضد عنف الدولة الموجَّه ضد شعبها بالأساس.  

 

إذ جاء ليكبل ويضع الأغلال على يد “غول” أزهق أرواح ملايين السودانيين، منذ بدء ما يُسمّى بـ”الحكم الوطني”.  

 

هذا “الغول” هو الجيش نفسه: ذراع الدولة الباطش بشعبها في الداخل دومًا، لا بأعدائها في الخارج، ولو لمرة واحدة.

 

بيد أنه، رغم سواد تاريخ هذا الجيش، يبرز من حين لآخر مجترّون لـ”علكة التاريخ”، شأنهم شأن الأبقار الكسولة التي تُدمن مضغ ما تستعيده من جوفها من خشاش.  

 

يفسر هؤلاء قرارات البرهان الأخيرة على نحو ما قال به أمين “صمود”، صديق الصادق المهدي، من أن:  

“الخطوات الأخيرة التي اتخذها الفريق أول عبد الفتاح البرهان تشير إلى مسار يعكس جدية في التعاطي مع استحقاق السودانيين للسلام وإعلاء المصلحة الوطنية.  

 

فقد جاءت كشوفات الترقية والإحالة، التي شملت أصحاب الانتماءات الصارخة، لتدفع بالمؤسسة العسكرية نحو ترسيخ المهنية والحياد.”

 

أي جدية؟ وأي مهنية؟ وأي حياد؟ وأي مصلحة وطنية، يا تُرى، تنطوي عليها قرارات البرهان؟  

 

سوى ما ينطبع في مثل هذه العقول الجامدة الموصولة بأوتاد الأمس والماضي.  

 

إنها عقول ترعى هكذا في فلك التاريخ بقيودها.  

تحجب رؤيتها المداراة، والمراوغة، وكثرة الحسابات المعقدة، والاعتبارات المتباينة، والمصالح المتقاطعة التي تعقل ألسنة أصحابها، وتُعكر صفو فكرهم.

 

فالتاريخ، على أية حال، ليس هو الماضي فقط؛ إنما هو الأحداث التي ما زالت تؤثر في الحاضر والمستقبل.

 

لكن، يظل في النهاية القول الفصل: إن من يده في الماء، ليس كمن يده في النار.

Exit mobile version