لم تكن جبال النوبة، طوال العامين الماضيين تقريباً من الحرب، مجرد تضاريس وعرة على هامش الجغرافيا السودانية؛ بل كانت ملاذاً أخيرا. لآلاف النازحين من بطش المعارك والمجاعات.
اليوم، يتبدّل المشهد جذرياً مع دخول قوات “الدعم السريع” إلى المنطقة عبر تحالفها مع الحركة الشعبية/شمال (تيار عبدالعزيز الحلو)، بما يهدد بتحويل مساحة الاحتماء إلى ساحة تنازع مفتوحة ويفرض على السكان معادلة أكثر قسوة: أمنٌ هشّ مقابل خطر الانزلاق إلى جبهة جديدة من الحرب.
جاء اختراق الدعم السريع لجبال النوبة سياسياً قبل أن يكون عسكرياً، عبر تحالف أُعلن في فبراير 2025 بينها و الحركة الشعبية/شمال (الحلو).
دوافع الطرفين براغماتية: الحركة تبحث عن أوراق قوة وطنية في مواجهة الجيش وروافده الأيديولوجية( الاخوان والسلفيين)، فيما تريد الدعم السريع عمقاً جغرافياً بديلاً بعد انحسار نفوذها في أجزاء واسعة من الوسط والعاصمة، وممرات إمداد أقرب إلى حدود جنوب السودان. هذا التحالف، بما فيه من تناقضات أخلاقية وتاريخ من العداء والاتهامات بالانتهاكات، يعكس منطق ضرورةٍ قسرية أكثر من كونه تقاربًا طبيعياً.
ميدانياً، تشير المعطيات إلى إعادة توجيه مقاتلين وموارد من الدعم السريع نحو دارفور وجنوب كردفان منذ أوائل 2025، وهو ما جعل بلدات مثل “خور الدليب” و”تونقولي” أسماء متداولة في يوميات الحرب.
مقاتلو الدعم السريع يظهرون جرحى في مستشفى “أم الرحمة” بجبال النوبة، بينما تتكثف ضربات الجيش بالطائرات المسيّرة والقصف، وتتبدّل خرائط السيطرة موضعياً وفق إيقاع “تحالف الضرورة” بين الحلو وحميدتي.
التضاريس الجبلية تمنح الطرفين دفاعاً نسبياً، لكنها في الوقت ذاته تغلق الطرق أمام المدنيين والإغاثة.
الوجه الأشد قتامة لهذا التحول هو الإنساني، فقد كانت المنطقة تعيش أصلاً على حافة مجاعة مؤكدة في أجزاء من النوبة الغربية، مع نزوح يناهز المليون داخل الجبال، وتقييدٍ شديد لوصول المساعدات. دخول الدعم السريع وتحول جبال النوبة إلى ساحة تنافس ثلاثي (جيش–دعم سريع–حركة شعبية/شمال) زاد المخاطر.
مزيد من النزوح، مزيد من القصف، ومزيد من التحكّم بالمعابر. مدينة كادوقلي مثال ساطع: طرقها قُطعت مرارًا، الإمداد التجاري تلاشى، والأسعار حلّقت، حتى وصفتها منظمات إنسانية بأنها مدينة تحت الحصار.
سياسياً، يتقاطع هذا كله مع مشروع أوسع للدعم السريع وحلفائها بتقديم أنفسهم كحكومة موازية أو مجلس رئاسي بديل؛ جهد يطمح لشرعنة سياسية وتسليحية ومالية في مواجهة حكومة بورتسودان المدعومة من الجيش.
إدراج عبدالعزيز الحلو نائباً لحميدتي في المجلس الموازي – كما أُعلن في يوليو 2025 – أعطى التحالف بعداً رمزياً وتنظيمياً يتجاوز الجغرافيا المحلية للنوبة نحو معادلة السودان الجديد العلماني الفيدرالي التي ترفعها الحركة. لكن هذا المسعى يُقابَل برفض الجيش وتخوف دولي من تكريس التقسيم وتعميق الحرب.
ما الذي يعنيه ذلك لسكان جبال النوبة؟
ثمة ثلاثة مسارات محتملة: أولًا، تعايشٌ مسلّح” قصير الأمد يُثبّت خطوط تماس جديدة داخل الجبال مع استمرار الكلفة الإنسانية الباهظة؛ ثانياً، تصدّع التحالف تحت ضغط أخلاقي داخلي واحتكاكات ميدانية أو بفعل وساطات، بما يعيد المنطقة إلى ثنائية صراع تقليدية أخف تعقيداً؛ ثالثاً تصعيدٌ عسكري واسع من جانب الجيش لاستعادة زمام المبادرة في جنوب كردفان، بما ينذر بموجات نزوح أكبر ومجاعة أوسع.
جميع المسارات، للأسف، تفترض استمرار إغلاق الشرايين الإنسانية ما لم تُفك القيود قسرًا باتفاقات عبور محمية دولياً.
الخلاصة: دخول الدعم السريع جبال النوبة ليس حدثاً تكتيكياً عابراً، بل منعطف يُعيد تعريف مركز الثقل في الحرب، ويضع الحركة الشعبية/شمال أمام اختبار أخلاقي–سياسي عسير بين براغماتية التحالف وسمعة الجبال كملاذٍ للمدنيين. وإذا لم يُفتح ممر إنساني آمن وتُضبط قواعد الاشتباك حول المناطق المأهولة، فإن الملاذ الأخير مرشح لأن يتحول إلى مسرح لكارثة ممتدة، يدفع المدنيون ثمنها مرّتين: مرة جوعاً، ومرة خوفاً.