أوبة ندى القلعة إلى صراط الفن المستقيم (3/2) 

صلاح شعيب

إن التجديف حول فضاء ندى لا يرتبط بفنها فحسب، وإنما بشخصها أيضاً، ما دامت أنها كانت مؤثرة في النفخ بجرابها الغنائي على نار الحرب.

 

فللحقيقة، والتاريخ، فإنني سمعت ندى لأول مرة وهي تردد ببراءة أغنية “عزاز علينا” بصورة جميلة. بصوتها الذي فيه بعض ذبذبات – كما قال خضر بشير عن ملكته – توقعت أنها، لاحقاً، بمزيد من الصقل، والشعر الجيد، ستكون إضافة لافانين منى الخير، والفلانية، وأماني مراد، وأم بلينة، وسمية حسن، وحنان إبراهيم، ومنال بدر الدين، وغيرهن كثر. 

 

ولكن للأسف ركزت فجأة على كونها “سليبرتي” تغزو سوق الحزام السوداني لترقص بذلك الشكل الذي عده بعضُنا خليعاً أمام الشريف النيجيري الذي أكرم وفادتها كما قالت مصادر فنية. 

 

والرقص كما تعلمون في ثقافة نساء السودان المحافظات محتشم سواء بالرقبة، أو بخفة الأرجل، كما هو على إيقاع رتوت ودليب منطقة الشايقية نموذجاً. 

 

وتعارفنا مع الأيام على أن رقص النساء بالخصر، ومناطق مثيرة لشهوة الرجال الجنسية، قاصر على رقصة العروس، والتي لا يحظى برؤيتها سوى العريس، وزوجه، والنساء من أسرتها، وقريباتها، وبنات الجيران، وصديقاتها. 

 

ولكن الرقص بذلك الشكل الذي ابتدرته ندى بالبنطال الضيق أثار جدلاً كثيفاً ما يزال حسادها ضمن المهنة، ومعارضوها السياسيون، يذكرونها به، حيث يرونه سبة اجتماعية أكثر من كونها فنية. 

 

وعلى كل حال، انحيازاً للفنان اعتقد أن ندى إنسانة حرة مسؤولة عما تراه أنه يعزز مكانتها الفنية. وكلنا نخطيء، مع حق الجمهور المحافظ في أن يرى عكس ذلك. 

 

فلو أخطأت في ذلك “البازار الفني” في تجاوز أعراف أهلها فإنها لم تكرر الأمر ذاته. ذلك برغم أن صوراً خاصة لها سُربت، وهي ترتشف الشيشة، وتبدو “متجدعة” كما يقول بعضنا. 

 

ولكنا غير متأكدين من صحة مركبات هذه الصورة في زمن الفوتوشوب، والذكاء الاصطناعي، ولو أنها حقيقية وسربتها صديقة لها فهل هي ليست سوى ضحية انتهاك الخصوصية؟!. 

 

وهذه الأشكال الجديدة من تسريبات الصور المثيرة للجدل، وفيديوهات المغنيات، والقونات، والشباب المغني “القرمبع” تجدها أحياناً مقصودة بدافع حفظ الوجود في المشهد الفني، أو تزيد هذه التسريبات جكة المغني بجكة فعل يصلح كترند. 

 

وأحياناً يتلصص أصحاب المحتوى الرقمي فيصورون المغنيات بلا استئذان فيكن ضحايا لانتهاك الخصوصية. ومن خلال هذه التسريبات الفادحة – إن لم نقل الفاضحة – يرى الجمهور المحافظ في مجتمعنا العشائري أن هولاء المغنين، والمغنواتيات، الجدد يتجاوزون الخطوط الحمراء للمحافظين السودانيين القدامى، والجدد بذات الدرجة. 

 

إذ يرى المتطرفون منهم أن في الفن منبت السوء، وأن المرأة تخرج من بيتها يوم زواجها، وعند وفاتها فقط، دع عنك غناءها، أو استعراض جماليات جسدها الفتان كما تفعل كثير من مغنيات الزنق الملونات.

 

إن سمية حسن لم تتجاوز تلك الخطوط الحمراء للمجتمع. فهي تسلب نظر، وسمع، المستمعين بحشمتها، وصوتها لا جسدها. 

 

وذلك هو ما تعارفنا عليه قبل الوقوف على حالة المغنيات في المشروع الحضاري، وبعده. وندى تفتحت معارفها في هذا المناخ القابض، وارتبطت نجوميتها كمغنية بمصالح ذلك الوضع الذي يحرم عركي من غناء جاد، ويتيح الاضمحلال الفني لسكينة الامتداد، وهكذا. 

 

وللحقيقة فإن غالبية المغنيات من غير ضاربات طبل الزنق اللائي ظهرن في فترة الإنقاذ محتشمات يراعين المحافظية السودانية، ويركزن على فنهن. 

 

وما يبدر من تطعيم للغناء بذلك الرقص الخليع، والكلمات والجمل الهابطة، هو “نقص العاجزين على التمام”.

 

ندى كمغنية ظهرت في زمن الملتيميديا، وأثبتت وجودها ضمن مغنيات برعن في بعث هذا النوع من الغناء الذي يستجيب لذائقة مجموعة من فلذات أكباد شعبنا، صغارهم، وبعض كبارنا الذين يقفزون في الدارة حين يستمعون لأغاني الحماسة.

 

أعمال ندى الفنية تسير في مدرسة النمط التقليدي. أي أن غناءها شيء، وغناء نانسي عجاج شيء آخر. فهي تركز على إيقاعات يعتقد الملحنون الحداثيون أنها اُستهلكت للغاية، ونغماتها عادية تجري مجرى الإيقاع كيفما اتفقا. 

 

وكلمات أغانيها من سائر ما يراه النقاد الجادون أنها مكرورة، ولا تبني فوق التطور الذي وصلت إليه الكلمة الغنائية عند القدال، أو جمال حسن سعيد، على سبيل المثال. 

 

ولكن مع ذلك فندى لا تملك فهما حداثياً يوطد أركان الرضا بها وسط أبناء الطبقة الوسطى الحداثيين الذين تدهشهم كلمات الدوش، وهاشم صديق، أكثر من إسحق الحلنقي الذي ابتكر تعاونا فنياً يستجيب لذهن الجبلية، وندى نفسها. والحلنقي حتى في صناعته للشعر مدهش أكثر من نظم عبدالله الطيب.

 

هي إذن من مدرسة فنية محافظة تعتمد على استمالة جمهورنا الذي تحركه العرضة، أو الدليب، والتم تم، ولا يهم بعدها اتجاه النص، أو غرائبيته. المهم هو الإيقاع الذي يستدعي الذاكرة القبلية، كما كان يفعل البشير الذي وجد في إيقاع الدلوكة فقط سبيلاً لاستدعاء ذاكرة أهله الأقربين. ومع ذلك فلندوية إيقاعات تداعب بها خيال داعمي “المشتركة فوق”.

 

وبعد الحرب دخلت الفنانة ندى كبلبوسة متحمسة تدعم قتال الجيش بالسجال السياسي، والغناء، وهذا من حقها كما هو حق زميلات لها يطالبن بإيقاف الاقتتال بذات المستوى. وحجج الفريقين في استخدم التأييد الشفاهي والفني مفهوم نظراً لحقيقة انقسام مجتمعنا حيال هذه الحرب. 

 

ولكن ندى لم تكتف بذلك بل صرحت بعد وصولها بورتسودان بالقول إن القحاتة لن يعودوا للبلاد مرة ثانية. وهذا قول سمعناه من كثير من مؤيدي الحرب حتى كاد يكون آية في كتاب الوطنية.

Exit mobile version