“مسيح دارفور”

محمد شبانة (*)

– رواية فاااااتنة، للكاتب السوداني الكبير، عبد العزيز بركة ساكن، تدور أحداثها حول ظهور شخص في دارفور يدّعي أنه المسيح ذاته، وليس شبيهاً له أو المسيح الدجال أو المهدي المنتظر، وجمع حوله الأتباع، وبالتالي أصبح خطراً على الحكومة التي أرسلت 66 مقاتلاً للقضاء عليه بصَلبه هو وأتباعه ليكونوا عبرة! وصنع النجارون وأشباه النجارين 15 صليباً كلها مقاس واحد، فلم تكن لهم خبرة بصناعة الصلبان.

– عبد العزيز بركة ساكن ليس كاتباً سهلاً، فالرواية ليست أحداثاً مشوقة فقط، ولا أسلوباً بديعا يعتمد على التكثيف حيث كل كلمة في مكانها، وإنما يوجد تأويل شديد التعقيد، لن ينتبه له إلا القارىء اليقظ طبعاً، ولاحِظ دلالة الأسماء والأفعال:

1- تكليف “إبراهيم خضر” بتتبّع الرجل وتقديم تقرير هل هو نبي أم لا.

2- أشقاء “عبد الرحمن”.. “هارون” و”إسحاق”، و”موسى”.

3- “عبد الرحمن”.. ذات الاسم الرجالي الذي لا تعرف سواه، “آكلة الأكباد” -أو هكذا شاع عنها- التي تقتل الجنجويد الذين ارتكبوا مجزرة ضد أهلها. وعندما سألها زوجها عن الحقيقة، قالت أنها حاولت أن تلوكها، لكن لم تستطع فلفِظتها!

4- “مريم”.. المرأة الوحيدة غير المتزوجة، في معسكر الدارفوريين، من بين تسعين امرأة، فأطلق عليها “شارون” -واسمه الحقيقي “هارون”- لقب “مريم المجدلية”.

5- “جبريل”.. سائس خيل “جمعة ساكن”، وراعي حديقته الكبيرة.

6- أتباع مسيح دارفور، الذين استمعوا إليه، ثم نزلوا جميعاً إلى الماء، فيما يشبه التعميد.

رواية مسيح دارفور

7- مسيح دارفور.. أبوه “يوسف هارون” من أمهر النجارين في زالنجي، وأمه “مريم” التي هربت به طفلاً خوفاً من أن يغتاله زبانية الوالي، وابن خالته “يحيى”.

– “شكيري توتو كوه”.. مجند الخدمة الوطنية، تم إرساله قسراً للقتال في دافور، في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وتم أَسره، ومعه “إبراهيم خضر”.

– كنت أتوقع نهاية حزينة، تتمثّل في صَلب المسيح الدارفوري يوم جمعة، وهي نهاية مثالية تقليدية لن يلوم أحد المؤلف عليها، لكن عبد العزيز بركة ساكن -الرائع جدااااا- خالَف توقعاتي، واختتمت الرواية بنهاية سعيدة أبهجتني شخصياً.

مقتطفات من الرواية

“لِمَ يصرّ القائد الميداني على صناعة الصلبان؟ أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومَن يتبعه بالرصاص؟! نعم إنه مزعج ومخيف ويُصدِر ضجيجاً مرعباً، ولكنه سيريحهم من صنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة الثقيلة. كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئاً عن يوسف النجار، وحدّثهم خطيب صلاة الجمعة أن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم، لأن الله رفعه للسماء، وأنزل بدلاً منه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود، وهُم يظنونه عيسى ذاته. لِمَ يصرّ هذا العسكري على صلبهم بينما لم يُصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذن ما ذنبنا نحن النجارين؟”.

“لا يدرون متى قال لهم: الكُفر يا أحبائي درجة بالغة التعقيد من الإيمان”.

محمد شبانة

“الشخص الآخر الذي سوف نتتبّع أخباره عبر هذه الحكاية أيضاً، هو شيكيري توتو كوه، الذي ظل صامتاً طوال فترة التحقيق، حتى أنه لم يذرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين، عندما أقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن الروسية العجوز نحو ما لا يعلمون من البلاد، لكنهم جميعاً كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد أن قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوماً السابقة، وكانوا يعرفون أنهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا إذا كانت في الجحيم مدينة بهذا الاسم”.

“كان إبراهيم مشغولاً بقراءة إشارات الجهاز الصوتية. يعتبر إبراهيم أن هذه المهمة ليست سوى مَضيعة للزمن لا أكثر، لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمّونهم الطورابورا، ويتمنى في عمق ذاته أن يستطيع الطورابورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكّنهم من الانتصار على جيشه وسحقِهم جميعاً، بمن فيهم هو نفسه”.

“العمة خريفية ليس لديها أي أطفال نتيجة علاقة حب أو عاطفة ما. لديها بنت واحدة كانت مشردة فآوتها، ثم اعتادت عليها، ثم تبنّتها، ثم أصبحت بنتها، وهي البنت الوحيدة في نيالا -وربما في السودان- تحمل اسم عبد الرحمن. على الأقل هذا الاسم هو الذي عُرِفَت به وهُم يلتقطونها من لظى المذبحة، حيث إن موظفي الإغاثة وجدوها حيّة تحت جثتين متحللتين، وعندما سألها أحدهم عن اسمها، قالت: عبد الرحمن”.

“للرجل علاقة جيدة مع كل جنوده ومع الأَسرى أيضا، يظل مرحا، وتُسمَع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هناك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أَم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلِق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى، لأن شارون حينها سيأخذ أرواحا كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى”.

رواية مسيح دارفور

“قال لها:

– أعمل أنا من عشر سنوات في هذا التكليف، وكنت مقاتلاً في أكثر من جبهة.

أكد لها بلُغتها المحلية، وهو يشيعها بابتسامة عريضة، بينما يتوغل بها الفرَس في عمق المكان. كانت مندهشة، ممتنة، وترغَبه بل تتشهّاه بشدة، فلو عادت بها الأيام، لأصبحت من أقرب أصدقائه، أو عشيقته، لا فرق. كم هي حزينة: أن أتعرف عليك في الوقت الضائع”.

“استيقظ المعسكر ذات صباح على شجار ما بين مريم المجدلية وعبد الرحمن. كانتا تشتمان بعضهما البعض بألفاظ نابية وجارحة، استطاع الناس من بين الشتائم والاتهامات أن يسبروا غور المشكلة، أو ظنوا أنه كذلك. توصلوا إلى أن عبد الرحمن تتهم مريم بالسعي إلى غواية زوجها شكيري توتو كوه، بل تدّعي أنها وجدتهما مراراً وتكراراً معا، وتتهم مريم أيضاً عبد الرحمن بأنها داعرة كبيرة، وأنها تمارس الجنس مع الجنود لتقنعهم بالوقوف إلى جانبها ضد شارون. صاحت مريم بصوت عال وواضح، إن عبد الرحمن كانت تستدرج الجنجويد عن طريق شرفها.

كانت هذه الإساءات مؤلمة لشكيري، صحّت أَم كذبَت، ولو أن عبد الرحمن قالت له ذات يوم إنها تحارب بكل ما لديها من أسلحة، وألمحت إليه أن جسدها واحد من تلك الأسلحة، وأنه أكثرها ضراوة. أما مسألة الشرف، فلم يترك لها الجنجويد شرفاً تحافظ عليه. لذا من جانبه يشك في كل شكل من أشكال التقارب بينها وبين شارون. ولم تمر شتائم مريم لها مرور الكرام، دون أن تحرّك أنياب المخافات فيه، ودون أن تدعه يحدّث ذاته بأن عبد الرحمن في سبيلها للسلطة قد تفعل. أما شتائمها لمريم، واتهامها لها بأنها تسعى لغواية زوجها، فكانت صحيحة، بل إن شكيري ومريم فعلَا كل ما يمكن أن يفعله شخصان ناضجان يؤمنان بأن الجسد يستطيع أن يفكر بعمق ولذة أكثر مما يمكن أن يفعل العقل.

رواية مسيح دارفور

ولم تكن لدى عبد الرحمن المعرفة الأكيدة بما وصلَا إليه من تواصل حميم، ولكن حدّثها قلبها، فصدّقته وافتعلت الشجار. كانت تريد أن تحتفظ بشكيري، لا تدري ما إذا كانت تحبه حقا أَم أنها تريد رجلا قربها لا أكثر”.

“سبقتهم إلى المكان الغبرة الكثيفة التي أثارتها أرجلهم المتعجلة المحشورة في بوت أسود قاسٍ، ثم ضجيج طائرة هليكوبتر ماركة أباتشي بغيضة عبرت فوق رؤوس بنايات القش الفارغة، فطارت الأعشاب إثر عاصفة هوائها العنيف. أسقطت قذيفتين عشوائيتين واختفت. كلما اقتربوا، كلما سمعنا هدير سياراتهم تحت أقدامنا، كلما استعد جبريل لهم، مسح حرابه بسمّ الثعبان، ثقف نصلها، تأكد من نشاباته، عدّها مراراً وتكراراً، كان يغني بصوت خفيض أغنية حرب حفظها عن جدّه، يتحسس تمائمه التي ورثها عن أبيه، وهي ضد الطلق الناري والحديد. الطفلان مرعوبان، اختفيا أخيراً في المخبأ وهما يرتجفان.

الساعات الأولى، دخل الجنجويد بالمئات، كانوا منشغلين بالغنائم، فيما تركه الناس من أبقار وأغنام وبعض الأغراض الثقيلة التي لم يستطيعوا حملها في جعلتهم تلك. حرقوا البيوت الفقيرة المصنوعة من الأعشاب، هدموا المسجد الوحيد بالقرية، أشعلوا النار في مدرسة القرية المبنية من العشب والمواد المحلية الأخرى، تسابقوا في احتكار الأرض، بل إن بعضهم هدد بعضهم باستخدام السلاح لحماية ما وضع يده عليه”.

“كان رجلاً طويلاً نحيلاً ذا جسم ناشف تكاد عظامه تُرَى، مثله مثل كل الجنجويد، تفوح منه رائحة وبر الإبل مختلطا بعرق البلح والمريسة، بالإضافة لإفراز بكتيريا الفم، حيث إنه ليس من طبيعته أن يستاك أو ينظف فمه، لأن ذلك من سمة النساء وليس من الرجولة بشيء، كان شَعره يتكون في رأسه مهمَلاً كعشب الخريف، عيناه حمراوان صغيرتان غائرتان في محجريهما كجمرتين متوقدتين، بصورة عامة كان أقرب إلى الذئب منه إلى الإنسان”.

“وهو يصنّف من الذين يؤمنون بالقضية ويجنّدون من أجلها أقرب المقربين ويطيعون الأوامر، ولا يتردد إطلاقاً في قتل أي شيء كائنا ما كان، بشرا أو حيوانا، ولا ترفّ له عين أو يرتجف له قلب أو يرقّ ضمير. وعلى الرغم من ذلك، فهو سريع البكاء إذا مات أحد أقاربه أو معارفه أو إذا مرض ولو مرضا طفيفا هيّناً. كان يخاف من الموت خوفاً غريباً، والناس يحسون هذا التناقض البيّن في شخصيته ولا يجدون تفسيراً، وبالنسبة لقادته، فلا بأس فيه طالما كان يقوم بكل ما يرجى منه على أتم وجه، وأطلقوا عليه لقباً ما زال لا يدرك أبعاده أو معانيه، لكنهم قالوا إنه اسم أحد صحابة الرسول، فقبِل به: أبو دجانة، واسمه الأصلي الذي أطلقه عليه والده هو جُربيقا”.

“لكي تكتمل حجّته، يحتاج النبي لمَن يكفر برسالته، تماماً كما يحتاج لمَن يؤمن به، وفي مرحلة ما قد يحتاج لمَن يؤذيه بشدة، بل لمَن يقتله أيضاً، حتى الأنبياء الكذبة يتشوقون لمطرقة العصاة الرحيمة”.

* كاتب وروائي مصري

Exit mobile version