من إبداع “الغابة والصحراء” إلى شفاهة “البحر والنهر” (3/1)

صلاح شعيب

مر التنظير السوداني عن الهوية في علاقتها بالبناء الوطني بمراحل فكرية، وثقافية، وأدبية، وفنية، متعددة. وظل هذا التفكير متخصباً لجدل الكينونة السودانية منذ زمان حمزة المك طمبل، وآل عشري الصديق، ومدرسة الفجر، والهاشماب، وصولاً إلى اللواء الأبيض، وما تلتها من مدرستي الغابة والصحراء، والخرطوم التشكيلية، وأبادماك، والسودانوية، والواحد، وزنجران إسماعيل عبد المعين. 

إذ بدت آنذاك مظاهر للتعبير الإبداعي عن الموجهات الفكرية التي تتكيء على جذور الأمل لخلق أمة سودانية موحدة. 

وقد ظل سؤال الهوية مطروحاً في كل التجارب الفكرية، والإبداعية، حتى خلصنا إلى زمان المقولات الشفاهية باسم مثلث حمدي، وتارةً أخرى البحر والنهر. 

والأخيرة تحاول الاعتماد على مفهوم التجانس العرقي في أقاليم وسط، وشرق، وشمال البلاد، لمقتضى الانكفاء على الذات التي عمّقتها العلاقات التاريخية الجينية، والثقافية، لهذه المكونات الناشئة في البحر الأحمر، ونهر النيل. 

هذا في مقابل رفض هذه المقولات التوحد الجاري مع الهويات الأخرى لغرب البلاد، وذلك على اعتبار أنها أنتجت حروب ضد المركز، وعطلت مسار تطوره.

 ورغم أن الأطروحات السابقة عن هوية الشعوب السودانية في علاقتها بأنظمة الحكم جاءت مكتوبة سوى أن المقولات الشفاهية لفصل الشمال، والبحر والنهر، تنحو إلى التقليل من شأن الهويات الطرفية في مناطق النزاع. 

وكذلك تراها غير جديرة بالتوائم الإنساني مع القوميات التي قامت عليها جذور تكوين ثقافة السودان الحالي، والمستندة على جذر الثقافة العربية، والإسلامية في تماسها مع الأفريقية، لا غير.

إذا نقينا هذه الأطروحات الشفاهية لانفصاليي أبناء شمال السودان القائمة على الكلام – أكثر من كونها تعتمد تنظيراً مكتوباً – من سخائم السخرية بالمكونات، والمساقات الثقافية الأخرى في القطر، فإن مضمونها في أحسن الأحوال هو العمل الضروري لمواطني البحر الأحمر، ونهر النيل، وشمال كردفان، على الكفر بدولة السودان الحالية لخلق دولة جديدة لشعوب هذه المناطق، تلك التي تدافع، عنهم في محاولة للاستفادة من هذا التجانس المجتمعي لعرب السودان، مشمولين بقوميات نوبية، وبيجاوية، والتي انصهرت مع العرب الوافدين إلى السودان، وشكلت مزيجاً اجتماعياً قام بعبء وراثة دولة ما بعد الاستعمار.

ما سبق محاولات منظري البحر والنهر، أو انفصال شمال، ووسط، السودان عن بقية أجزاء القطر، في هذا المنحى، هو أطروحة مثلث حمدي التي لم يضطلع د. عبد الرحيم حمدي بتشريحها، معتمداً فقط التعبير عنها كورقة تنموية اقتصادية إستراتيجية قدمها لسلطة الإنقاذ، والتي تشمل مصالح مثلث “مدني – دنقلا – سنار”، اتقاءً لإمكانية ذهاب بقية مناطق القطر إلى تكوين دويلات تخصها في خاتم ديربي المنافسات السياسية وسط مناطق البلاد المتعددة.

شفاهية منظري انفصال الشمال، أو البحر والنهر، في التعبير عن شؤون أهلهم الأقربين من حيث الصلة الجينية هي المقابل الموضوعي للسياسة المطلبية التي اعتمدها بعض أبناء أطراف السودان سلمياً في المرة الأولى لتحقيق التوازن في العدل الاجتماعي، والثقافي، ثم لاحقاً بدأ كفاحهم المسلح ضد الخرطوم. وهؤلاء الانفصاليون الشفاهيون في خطابهم السياسي يزيدون لطرحهم التحقير بقوميات غرب السودان المتمردة، وبأنهم هم “الرائعون” – كمصطلح تم اجترحه كبديل لكلمة العبيد – ولذلك لا يستحقون من العناصر العربية غير النبذ عن دولتهم الجديدة التي تضم عناصر مثال من البشر الذين يشتركون مع خصائص الجنس الآري في الأفضلية، أي أن هؤلاء المنتمين لدولة الشمال الانفصالية، أو البحر والنهر، يرتقون اليوم كمجموعة عرقية متجانسة تحظى بمراتب عليا من الطهر البشري المفقود لدى قاطني دارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان.

Exit mobile version