يشهد السودان ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار السلع الاستهلاكية في ظل تراجع غير مسبوق للجنيه أمام الدولار، مما شكل ضغوطاً اقتصادية بالغة التعقيد على المواطنين الذين يعانون انعدام الأعمال وضعف الرواتب الشهرية للعاملين في القطاع العام، جراء الصراع الدائر بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ الـ15 من أبريل عام 2023، مع غياب الحل السياسي وتعطيل آليات السوق الرسمية، في وقت أسفرت الحرب عن واقع معيشي مزرٍ سواء في الولايات الآمنة الواقعة تحت سيطرة الجيش التي تشمل شمال البلاد وشرقها والخرطوم والجزيرة وولاية النيل الأبيض وشمال كردفان وأجزاء واسعة من غرب وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشمال دارفور، أو الولايات التي تقع في قبضة “الدعم السريع” وتضم ولايات جنوب وغرب وشرق ووسط دارفور، فضلاً عن أجزاء من ولايات غرب وجنوب وشمال كردفان.
وأدى تصاعد الأسعار بخاصة المواد الغذائية بصورة يومية في الأسواق المختلفة إلى حال من الغضب العارم وسط المواطنين الذين باتوا بالكاد يتدبرون وجبة واحدة في اليوم.
وبحسب دراسة حديثة أجرتها لجنة المعلمين السودانيين، فإن كلفة المعيشة الشهرية لأسرة مكونة من خمسة أفراد تبلغ مليون و652 ألف جنيه سوداني (ما يعادل 485 دولاراً)، في حين أن الراتب الأساس للدرجة 17 مدخول خدمة العامل، يبلغ 12 ألف جنيه (ما يقارب ثلاثة دولارات ونصف الدولار) في الشهر، مما يعني أن العاملين في البلاد بلا استثناء يقعون تحت خط الفقر المدقع المعرف بالحالة التي يعجز فيها المواطن عن الإيفاء بأدنى متطلبات الحياة.
يأس وخناق
في السياق، قال المواطن محمد إبراهيم بضاحية الثورة في مدينة أم درمان “في الحقيقة إن تدهور الاقتصاد في البلاد وضع المواطنين في أزمة إنسانية معقدة بسبب ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية مع انعدام فرص العمل، ولا سيما أن المهن التي يمارسونها منذ اندلاع الحرب هامشية لا تدر أموالاً، مما جعلهم يعتمدون على سلع محدودة ورخيصة، بخاصة أن أسعار السلع الضرورية مثل السكر والعدس والرز والزيت في حال زيادة مستمرة، في وقت لم يعُد هناك إقبال على اللحوم لأن أسعارها فوق طاقة المواطن”.
وأضاف أن سكان ولاية الخرطوم كانوا يأملون في أن يؤدي تحريرها من قبضة “الدعم السريع” إلى تحسن الأوضاع فيها، لكن من المؤسف أن ذلك لم يحدث بل ازداد الوضع سوءاً لدرجة لا يمكن تصديقها، فهذا الصراع دمر الآمال وخلق نوعاً من عدم التوازن المعيشي وبات اليأس يسيطر على كل فرد وأسرة تعيش داخل العاصمة، مع غياب حلول تسهم في استقرار البلاد.
وأشار إبراهيم إلى أن “المواطن بات الضحية الحقيقية لأي تدهور يحدث في الاقتصاد الذي يجعل الأسعار ملتهبة، فالتجار لا يراعون المواطن ويضعون الزيادة مع كل ضريبة تفرضها الحكومة، مما يزيد الخناق عليه ويجعله هزيلاً ويائساً غير قادر على تحمل ضغوطات الحياة”.
فروقات كبيرة
من جانبها، أفادت سلمى النور الموظفة في أحد القطاعات الحكومية بأن “الرواتب الشهرية التي يتقاضاها موظف الدولة أصبحت لا تتناسب مع حجم الإنفاق اليومي فما الحال لشهر بأكمله، فهذه الفروقات الكبيرة أفرزت واقعاً قاسياً، ولا سيما الصعوبة في تدبير المصاريف حتى لأسرة صغيرة لا يتعدى أفرادها ثلاثة أشخاص، وسط الغلاء الجنوني في أسعار الغذاء، ناهيك عن ضرورة تلبية حاجات أخرى ملحة مثل الدواء والكهرباء والمياه والتعليم وغاز الطهي”.
وقالت النور “منذ اندلاع الحرب كانت هناك مشكلات في عدم استقرار الأجور، إذ لم تقرّ زيادات، بل قامت الحكومة باستقطاعات من تلك الرواتب وأوقفت كل الامتيازات، مما فاقم الأزمة المعيشية، إذ ظللت أتدبر مستلزمات أسرتي براتب مقداره 180 ألف جنيه (ما يعادل 52 دولاراً)، وحين يأتي راتب الشهر الجديد أكون غارقة في الديون، وهذه الحال تنسحب على غالبية الموظفين والعاملين”.
وتأمل النور في أن تضع الحكومة الجديدة مع مباشرة العاملين أعمالهم، موظف الدولة ضمن أولوياتها برفع الأجور وزيادة العلاوات بدلاً من تقليصها، كما جرى في “بدل الوجبة” الذي يمنح نظير كلفة الوجبة اليومية، وهو جزء من البنود في رواتب الموظفين والعاملين ضمن المؤسسات الحكومية، إذ يسهم إلى حد كبير في تغطية الحاجات المنزلية.
تصاعد مستمر
التاجر في سوق صابرين بأم درمان مبارك إدريس أوضح أن “الارتفاع الكبير في السلع الاستهلاكية يرجع إلى التصاعد المتسارع في العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني الذي شكل تدهوراً حاداً خلال الأيام الأخيرة، كما أدى إلى زيادات لا تحتمل انعكست سلباً على المواطنين والتجار معاً، بخاصة أن البلاد تعاني أوضاعاً اقتصادية بالغة السوء”.
وأضاف أن “هناك مواد أسعارها تزداد يوماً تلو الآخر، فمثلاً أسعار السكر والدقيق والزيت ارتفعت بنسبة 40 في المئة، كما هناك صعود مطّرد في أسعار العدس والرز”، لافتاً إلى أنه في المقابل بقيت أسعار بعض السلع مستقرة في الأسواق المختلفة مثل البصل والفول السوداني.
ونوه إلى أن غالبية التجار يجلبون السلع الاستهلاكية من مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، مما يشكل ضغطاً متزايداً في كلفة النقل ينعكس على الأسعار.
انعدام الرقابة
فيما يرى حامد إبراهيم صاحب محل تجاري في سوق مدينة بورتسودان أن “السودان عانى كثيراً عدم استقرار في قيمة الجنيه بسبب الحرب التي دخلت عامها الثالث من دون حلول تسكت صوت البنادق إلى الأبد، إذ فاقمت الأوضاع المعيشية في الولايات كافة، وأصبح المواطن في مجابهة أسعار ترتفع في الأسواق من دون رقابة، خصوصاً السكر نتيجة عدم وصول البواخر إلى ميناء بورتسودان، فضلاً عن الضرائب الباهظة على السلع التي تقفز أسعارها بسبب تدني مستوى الإنتاج في الولايات”.
وأوضح أن “التجار مغلوب على أمرهم، فارتفاع الأسعار ليس بيدهم ولا في مصلحتهم لأن الأسواق في هذه الحال تشهد ركوداً وعدم إقبال على الشراء، لكن ما يحدث الآن من غلاء سببه ارتفاع سعر الصرف.
خلل هيكلي
من ناحيته قال الباحث الاقتصادي إبراهيم أونور “في تقديري أن انهيار العملة الوطنية يمثل انعكاساً لخلل هيكلي في إدارة الاقتصاد بالبلاد، إذ أشرنا مسبقاً منذ بداية العام الحالي إلى ضرورة تبني الحكومة مجموعة من الإجراءات الاحترازية للحيلولة دون انزلاق الجنيه نحو مزيد من التدهور، لكن المؤسف أن الدولة ظلت تتعامل بردود الأفعال أكثر من حرصها على معرفة الأسباب الحقيقية ووضع تدابير استباقية قبل حدوث الكارثة”.
وأشار إلى أن “المشكلة الأساسية ليست في تدهور العملة المحلية نتيجة لضعف العرض من العملات الحرة لدى القطاع المصرفي بما في ذلك البنك المركزي، بل المشكلة تكمن في أن بنك السودان على رغم أنه الجهة المسؤولة عن إدارة سعر الصرف، ليست لديه أية معلومة عن الأسباب الحقيقة وراء تهاوي الجنيه خلال الشهرين الأخيرين من 2200 جنيه للدولار إلى 3500 جنيه حالياً، فضلاً عن غياب رؤية للبنك المركزي لمعالجة الوضع الراهن”.
وأردف أن “فقدان المتعاملين في العملة الوطنية الثقة أدى إلى تسارع انهيار الجنيه خلال الشهرين الماضيين بنحو 60 في المئة ما يعتبر من أخطر أسباب الانهيار، مما أسهم في خلق ما يعرف في أدبيات التمويل الدولي بـ’الهجوم المدفوع بالتوقعات‘، وهي ظاهرة مرتبطة بهيمنة سلوك المضاربات المدفوعة بدوافع احترازية لعدم فقدان الثروة النقدية قيمتها، مما يحتم على الكل اكتناز أكبر قدر ممكن من العملات الحرة لحماية الثروة النقدية بالعملة المحلية من التآكل”.
وشرح أونور أن “هذا التدهور الكبير للعملة دفع الأفراد والمؤسسات إلى امتلاك الدولار عن طريق الشراء من السوق الموازية للحفاظ على قيمة ثروتهم من العملة المحلية التي ظلت تفقد كل يوم ما يعادل نحو 22 جنيهاً، مما جعل البنك المركزي يفقد السيطرة على وقف هذا الانفلات”.
ويرى الباحث الاقتصادي أن الخروج من الأزمة الاقتصادية في البلاد يتطلب تبني استراتيجية وطنية للإنتاج تقوم على دعم الزراعة والصناعة واستعادة الثقة بالمؤسسات الاقتصادية بصفتها عناصر أساسية في تحقيق التوازن والاستقرار.
ثمن فادح
على الصعيد نفسه، قال المتخصص الاقتصادي محمد كمال إن “السوق الموازية للعملات ما دام أنها ظلت نشطة في بورتسودان وعطبرة والخرطوم سيدفع الجنيه الثمن الفادح، بينما لا يملك البنك المركزي احتياطات نقدية من الدولار”.
وواصل كمال أن “سعر الدولار في السوق الموازية تجاوز الـ3200 جنيه، ويتوقع أن يرتفع ما لم تحصل الحكومة على قرض خارجي يتجاوز ملياري دولار، وهو أمر مرهون بموافقتها على وقف الحرب”.
وأشار إلى أنه “في حال توقفت الحرب، فمن المتوقع تحسن مؤشرات الاقتصاد مطلع عام 2026، إذ إن الرسوم الجمركية ستكون مرنة مع سعر الصرف الذي يتحكم في التعرفة الجمركية”.
ولفت المتخصص في المجال الاقتصادي إلى أن الحكومة استعادت 30 في المئة من الإيرادات التي فقدتها خلال الحرب، وبقيت نسبة 70 في المئة حتى يعود الوضع لما كان عليه قبل الحرب.