تشهد الساحة الشمالية لإقليم دارفور تحركات عسكرية كثيفة وتوترًا متصاعدًا، حيث أفادت تقارير ميدانية ومصادر محلية بأن حشودًا لقوات “القوة المشتركة” التابعة للحركات المسلحة تجمعت منذ نحو شهر في محاور متعددة تمتد من كرنوي إلى الطينة وأمبرو، مرورًا بأجزاء من وادي هور ومنطقة الدبة في الولاية الشمالية، فيما تترافق هذه التحضيرات مع مواجهات عنيفة مستمرة في مدينة الفاشر التي تبدو اليوم محور الصراع في شمال الإقليم.
هذه التحركات لا تنفصل عن بُعد جغرافي واستراتيجي واضح؛ الشريط الصحراوي الممتد نحو ليبيا وتشاد يوفّر ممرات لخطوط إمداد وفضاءات لتحركات القوات غير النظامية، ما يمنح المواقع الشمالية أهمية تفوق حجمها السكاني، ويحوّلها إلى نقاط ارتكاز قد تقرر مسارات المواجهة المقبلة. مصادر عسكرية أفادت بأن تحرّكات الجيش والقوة المشتركة وشحنات المعدات الحربية من قواعد مثل شفرليت تهدف إلى قطع خطوط الإمداد التي تربط المثلث الحدودي بإقليم دارفور، فيما تُبرّر بعض المجموعات تمركزها بأنه إجراء دفاعي لحماية المدن الحدودية من هجمات محتملة.
على الأرض، تبدو تكلفة هذا التصعيد بشرية ومادية باهظة. الفاشر التي تعاني حصارًا مشدداً منذ فترة طويلة تعرّضت مؤخراً لهجوم مروّع بطائرة مسيّرة استهدف مسجدًا في مخيّم للنازحين خلال الصلاة، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى وجرحى، في حادث اعتبرته تقارير دولية بمثابة مؤشر على تدهور خطير في التقيّم الإنساني والأمني داخل المدينة. كما حذّر الأمين العام للأمم المتحدة ومنسّقو الشؤون الإنسانية من أن حصار الفاشر المستمر لأكثر من 500 يوم يفاقم أزمة نزوح وجوع وصحة وسط من يعانون حصارًا خانقًا، داعين إلى وقف فوري للأعمال العدائية وفتح ممرات آمنة للمساعدات.
سلوك الأطراف في الساحة الميدانية أظهر أيضًا تصعيدًا تكنولوجيًا؛ فاستخدام الطائرات المسيرة بات سمة متكررة في هجمات طالت مناطق أخرى من دارفور أيضًا، بما في ذلك ضربات جوية على أسواق ومواقع مدنية أدت إلى خسائر في صفوف المدنيين، وهو ما يعكس تحولًا في نمط القتال من مواجهة برية تقليدية إلى معارك تعتمد على الضربات الجوية الدقيقة نسبياً لكنها قاتلة على المدنيين والبنى التحتية. هذا التحول يزيد من صعوبة حماية المدنيين ويقلّص هامش التحرك الإنساني في بيئة تعاني من إغلاق طرق المساعدة وصعوبات لوجستية متفاقمة.
السياسة والديبلوماسية داخليًا وخارجيًا ضاعفت من تعقيد المشهد؛ فقد خرجت تصريحات رسمية رفيعة المستوى حملت رسائل موجهة إلى أطراف إقليمية ودولية، بينما حاولت السلطة العسكرية في الخرطوم تحييد أي انتقادات عبر التواصل مع دول الرباعية ووساطة خارجية، ومع ذلك شهدت ساحات الإعلام والدبلوماسية تصعيدًا موازياً، إذ نفت بعثة السودان في واشنطن أن تكون هناك قرارات أمريكية تقيد نشاط الخرطوم في المنظمات الدولية، في ردّ على ما تداوله بعض وسائل التواصل بشأن مسودات أو مقترحات تشريعية أمريكية، وهو ما يعكس وجود احتكاك بين الضغط الدولي والرسائل الرسمية المحلّية.
مآلات هذا التصعيد تفرض الانتباه لعدة ملاحظات مكثفة؛ أولاً، الطابع المتعدد الجهات للصراع في دارفور — بين الجيش، قوات الدعم السريع، مجموعات مسلحة محلية، وقوة مشتركة للحركات — يجعل من الصعب بروز حل عسكري حاسم سريعًا، إذ إن كل طرف يمتلك أهدافًا إقليمية ومصالح محلية متداخلة. ثانياً، قرب المحاور من الحدود الدولية يعني أن أي تحرّك واسع قد يتسبب بانتشار أمني إقليمي وفتح قنوات لتمويل وتسليح عبر شبكات عبر الحدود، ما يعيد تشكيل لعبة النفوذ الإقليمي في منطقتي الساحل والشمال الأفريقي. ثالثًا، الاعتماد المتزايد على الطائرات المسيرة كأداة هجومية يزيد من خطورة الضربات الخاطئة على المدنيين، ويفتح الباب أمام إدانات دولية تتصل بارتكاب جرائم حرب محتملة وإجراءات على مستوى الأمم المتحدة.
لذا تبدو المعادلة في شمال دارفور اليوم مختزلة في ثلاثة مسارات محتملة: إما تصاعد ميداني يفتح نافذة لزحفٍ أكبر نحو حسم إقليمي مع تداعيات على دول الجوار، وإما احتدام محلي مؤلم مع استمرار الحصار على الفاشر وتفاقم المعاناة الإنسانية، أو احتمال هروب إلى تفاهمات محلية هشة تسمح بإيقاف جزئي للقتال لكن دون حل سياسي مستدام. المطلوب الآن من المجتمع الدولي هو ضغط ذكي ومموّل لفتح ممرات إنسانية آمنة، ودعوة فعّالة لجميع الأطراف لوقف استخدام المدنيين كأهداف، مع فرض آليات مراقبة دولية لوقف الانتهاكات والتحقق من ادعاءات الاستخدام الممنهج للأسلحة المسيرة ضد أهداف مدنية، لأن تكلفة التأجيل ستُدفع بالدينار البشري أولاً، وبالاستقرار الإقليمي ثانيًا.