عبّد الجليل سليمان ومحمود سارنيبو
منذ القرن التاسع عشر الميلادي سادت في الدراسات الاستشراقية تصنيفات عرقية ولغوية مستمدة من التوراة، أبرزها تقسيم البشر إلى “ساميين” و”حاميين” و”يافثيين”. وقد شاعت هذه المصطلحات في الأدبيات التاريخية واللغوية حتى صارت أشبه بالمسلمات، رغم أنّها لا تستند إلى أساس علمي صارم، وإنما إلى أنساق أسطورية توراتية أُسقطت على الواقع التاريخي.
لقد كشف البحث الأكاديمي الحديث عن هشاشة هذه التصنيفات، وأظهر أنّها بنيت على مقارنات سطحية، وأسقطت مفاهيم لاهوتية على وقائع أنثروبولوجية.
التصنيف التوراتي وأوهامه
يقوم التصنيف التوراتي على تقسيم البشر إلى أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. فجُعلت أصول العرب واليهود والآشوريين من نسل سام؛ وأُلحقت الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء بأبناء حام؛ بينما أُعطي نسل يافث لأمم الشمال والأوروبيين. وقد وظفت هذه القسمة لاحقًا في خدمة خطابات استعمارية عنصرية، أبرزها نظرية “العرق الحامي” التي زعمت تفوق بعض الجماعات الإفريقية على غيرها.
تفكيك مفهوم “الساميين”
لم يعد مصطلح “الساميين” صالحًا في الدراسات العلمية المعاصرة. فهو يقوم على نسب أسطوري لشعوب متباينة لغويًا وثقافيًا. البديل الأكاديمي هو مصطلح اللغات الأفروآسيوية (Afroasiatic languages)، وهو إطار مقارن يضم العربية والعبرية والآرامية (السامية سابقًا) إلى جانب المصرية القديمة والأمازيغية والكوشية (اللغة، لا “العرق”).
تفكيك مفهوم “الحاميين”
أشد المفاهيم زيفًا هو “العرق الحامي”، الذي أُلصق زيفًا بسكان إفريقيا الشرقية والشمالية. وقد انهارت هذه النظرية بالكامل، إذ لا يوجد كيان لغوي أو أنثروبولوجي مستقل يمكن أن يُسمى “حاميًا”. والمصطلح أُلغي نهائيًا في أبحاث اللغويات المقارنة بعد أعمال جوزيف غرينبرغ (Joseph Greenberg) في منتصف القرن العشرين.
تفكيك مفهوم “الكوشيين”
أما “العرق الكوشي” فقد بُني على إسقاط التسمية التوراتية “كوش” على حضارات وادي النيل والسودان القديم. غير أنّ الاكتشافات الأركيولوجية أوضحت أن “كوش” لم تكن كيانًا عرقيًا عالميًا، بل مملكة محلية متعاقبة المراكز (نباتا، مروي). إنها حضارة تاريخية محددة، لا عِرق مستقل ولا تصنيف عالمي. وعليه فإنّ إدراج “الكوشيين” كفرع عرقي أو لغوي قائم بذاته هو محض خطأ تاريخي، إذ لا يُعترف به في التصنيفات اللغوية أو الأنثروبولوجية الحديثة.
البدائل الأكاديمية الحديثة
اعتمدت الدراسات المعاصرة في علم اللغة المقارن والأنثروبولوجيا على تصنيفات أكثر دقة تقوم على المنهج العلمي بدل المرويات التوراتية. ومن أبرزها:
– اللغات الأفروآسيوية (Afroasiatic): تضم العربية والعبرية والآرامية والأمازيغية والكوشية (لغة شرق إفريقيا) والمصرية القديمة.
– اللغات النيلية–الصحراوية (Nilo-Saharan): وتشمل لغات شعوب واسعة في وادي النيل الأوسط والقرن الإفريقي.
– اللغات النيجر–كونغو (Niger-Congo): وتشمل معظم لغات إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
– اللغات الهندوأوروبية (Indo-European): وتشمل لغات أوروبا والهند وإيران القديمة.
هذه التصنيفات لا تبني على أساطير نسب توراتية، بل على قواعد المقارنة اللغوية، والأدلة الأركيولوجية، والتحليل الجيني.
بناء أسطوري
انهارت التصنيفات التوراتية لأنها لم تكن سوى بناء أسطوري، لا علاقة له بالمنهج العلمي.
“السامية” و”الحامية” و”الكوشية” ليست أطرًا صالحة في الدراسات الحديثة، بل أوهام لاهوتية أسقطت على تاريخ الشعوب.
أما العلم الراهن، فقد تجاوزها إلى تصنيفات دقيقة تستند إلى علم اللغة التاريخي، وعلم الوراثة السكانية والأنثروبولوجيا.
إنّ العودة إلى هذه المصطلحات اليوم لا تعني سوى إعادة إنتاج خطاب استشراقي تجاوزه العلم، ولم يعد يُنظر إليه إلا بوصفه أثرًا من آثار مرحلة استعمارية.