نزار محمد جمعة، الوجه السوداني الذي بدأ يتشكل في فضاء السينما العالمية، يطل على المشهد الفني بوصفه رافدا يحمل تراكم سنوات من التجربة والبحث، متنقلا بين خشبة المسرح وشاشات التلفزيون، قبل أن يفتح له فيلم وداعا جوليا الطريق إلى مهرجان كان، أرفع منصات السينما في العالم.
منذ ولادته في الخرطوم عام 1976 وتخرجه في أكاديمية السودان لعلوم الاتصال عام 2004، رسم نزار مساره الفني بخطى ثابتة، بدأها مساعدا للإخراج في أعمال بارزة مثل ساهرون وفي انتظار آدم، ثم مخرجا معتمدا في تلفزيون السودان بين 2007 و2013. تلك التجارب وبقدر ماكانت مراحل مهنية، فهي أيضا شكلت مختبرات للتعلم وصقل الرؤية، حيث واصل مع قنوات الشروق والمنال، وأخرج أعمالا درامية وسلسلة برامجية بالتعاون مع مؤسسات إنتاجية وتنموية، ليجعل من الإخراج مجالا لصياغة وعي اجتماعي وجمالي متداخل.
هذا التراكم الإخراجي، المدعوم بتدريب مهني في السودان وماليزيا، أكسبه خلفية تقنية ونضجا بصريا انعكس على تمثيله. فالممثل عند نزار ليس كيانا منفصلا عن المخرج، بل امتداد له، قارئ دقيق للمشهد ومتفحص لتفاصيل الشخصية. في وداعا جوليا تجلت هذه الخبرة في دور معقد أتقن فيه التعبير عن الصراع الداخلي، فحاز إعجاب النقاد وترشيحا لجائزة النقاد العرب لأفضل ممثل في مهرجان كان. هذا الترشيح لم يكن تكريما فرديا، بل احتفاء بالسينما السودانية وهي تطرق أبواب العالمية بثقة.
أداء نزار يتسم بقدرة نادرة على الجمع بين الصدق الداخلي والانضباط التقني. فهو لا ينجرف إلى المبالغة، بل يبني أداءه من الداخل إلى الخارج: النظرات الصامتة، تغيّر نبرة الصوت، الوقفة الدقيقة، كلها تتحول إلى أدوات مشحونة بالمعنى. هذا الأسلوب يقارب ما أسسه ستانسلافسكي في مدرسة التمثيل النفسي، لكنه لا يتوقف عند حدودها، بل يضفرها مع خصوصية البيئة السودانية، فيعيد صياغة الشخصية بروح المكان وحمولته الثقافية والاجتماعية.
وإذا قارنا منهجيته بما عرفته الواقعية الإيطالية الجديدة، التي اعتمدت على البساطة والتقاط التفاصيل اليومية، نجد أن نزار يقترب منها من حيث الاقتصاد في الحركة واللغة، لكنه يضيف إليها بعدا داخليا يتجاوز المباشرة، فيجعل من الإيماءة العادية حدثا دراميا. ومن ناحية أخرى، يتقاطع مع تقاليد المدارس الأمريكية في اعتماده على استحضار الانفعال الشخصي وتوظيفه في التعبير، لكنه لا يغرق في ذاتية التجربة، بل يوازن بين الداخل الفردي والبعد الجمعي للشخصية. هذه المزاوجة بين مدارس متباينة تجعل أداءه متفردا، لا ينتمي إلى قوالب جاهزة، بل يعيد تشكيلها وفق شروطه هو.
وتتجلى خبرته الإخراجية في وعيه بموقع الممثل داخل الكادر، وقدرته على التكيف مع زوايا التصوير والإيقاع البصري. فهو يعرف متى يترك الصمت يتحدث، ومتى يجعل الحركة هي النص، فتبدو مشاهده متدفقة، تجمع بين عفوية الطبيعة وانضباط الفن. هذا التداخل بين الانسياب والسيطرة يمنحه حضورا صادقا، وفي الوقت نفسه مشبعا بجماليات بصرية عالية.
ولم يكن فيلم وداعا جوليا المحطة الوحيدة، فقد شارك نزار في أفلام عربية أخرى مثل أسد لمحمد دياب، وفي الظلام لمحمد فاوي، مؤكدا مرونته في التنقل بين أدوار وسياقات إنتاجية متباينة دون أن يفقد بصمته الخاصة. فهو في كل مرة يراهن على الاقتصاد في التعبير، ويمنح المتفرج فرصة لاستكشاف ما وراء الكلمة والنظرة، متكئا على ذكاء بصري أكثر من الاعتماد على الحوار المباشر.
تجربة نزار محمد جمعة تمثل شهادة على قدرة الفنان السوداني على المزج بين الجذور والطموح، بين المحلية والعالمية، بين التمثيل والإخراج. حضوره أمام الكاميرا مقنع، يخلق علاقة وجدانية مع المتلقي، تجعل المشاهدة تجربة مشتركة. واليوم، وهو يحظى بإشادة محلية وعربية ودولية، تتفتح تجربته كسؤال أكبر عن موقع السودان في خريطة الإبداع العالمي. وفي زمن يحتاج فيه السودان إلى أصوات تحمل رسائله الفنية إلى العالم، يقف نزار محمد جمعة نموذجا للفنان الذي لا يكتفي بالتمثيل، بل يروي الحكاية من قلب الخرطوم إلى فضاء السينما العالمية، بهدوء الواثق وصدق الموهوب.
ولعل ما يجعل تجربته جديرة بالانتباه، أنها لا تمثل فقط تتويجا فرديا، بل تفتح أفقا للمخرجين والمنتجين العرب والعالميين لاكتشاف طاقة تمثيلية استثنائية، قادرة على حمل الأدوار المركبة وتوسيع مديات الحكاية البصرية. فالممثل الذي يوازن بين الانضباط المهني والصدق الإبداعي، ويملك وعيا بالصورة لا يقل عن وعيه بالشخصية، يظل استثمارا فنيا رابحا لأي مشروع سينمائي يبحث عن العمق والفرادة. نزار محمد جمعة، في هذا السياق، بقدر ماهو ممثل لامع، فهو رصيد إبداعي يفيض بطاقة لا تزال تنتظر مساحات أوسع لتكشف عن مداها الكامل وهو مانأمل أن نراه ونختبره متحققا قريبا في تجارب أخرى.