في مشهد يعكس حجم التعقيد الأمني الذي يعيشه السودان، تداخلت خلال الأيام الماضية وقائع لافتة في كل من العاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر بإقليم دارفور، لتكشف عن شبكة مترابطة من التحديات التي تواجه الدولة على المستويين الاقتصادي والعسكري. فمن جهة، تمكنت السلطات الأمنية في الخرطوم بحري من إحباط عملية تهريب ضخمة عبر شاحنة محملة بقطع غيار سيارات وماكينات تشغيل، ومن جهة أخرى، تصاعدت المواجهات في الفاشر مع دخول عناصر أجنبية مجهزة بتقنيات متقدمة على خط الصراع، بالتوازي مع ظهور منشآت غامضة يُرجح أن تكون ذات طبيعة عسكرية في محيط المدينة.
في الخرطوم، بدت عملية توقيف الشاحنة عند جسر كوبر وكأنها جزء من معركة خفية مع شبكات التهريب التي تتخذ من العاصمة ساحة لعب رئيسية. الشاحنة، وهي من نوع “دفار جامبو”، كانت محمّلة بكميات ضخمة من البضائع دون أي مستندات قانونية، ما دفع القوة الأمنية للتحرك الفوري. هذه العملية لم تكن مجرد مصادرة لبضائع مجهولة المصدر، بل رسالة واضحة بأن الدولة تحاول الإمساك بخيوط الاقتصاد الموازي الذي يغذي ارتفاع الأسعار ويهدد استقرار السوق المحلي. فقد أظهرت التحقيقات الأولية أن وراء هذه الحمولة شبهات ارتباط بشبكات منظمة، تعمل على تمرير البضائع بعيداً عن المنافذ الرسمية، الأمر الذي يضرب في صميم الاقتصاد ويزيد من معاناة التجار النظاميين و
المستهلكين على السواء.
وفي الوقت الذي تحاول فيه العاصمة ضبط أنفاسها الاقتصادية، كانت مدينة الفاشر على موعد مع تطورات أكثر خطورة. قيادة الفرقة السادسة مشاة أعلنت مقتل عناصر أجنبية تقاتل إلى جانب قوات الدعم السريع، بينهم كولومبيون وأوكرانيون، في مؤشر على الطابع الدولي المتنامي للنزاع. هذه العناصر، وفق البيان العسكري، لم تكن مجرد مقاتلين عاديين، بل ضمّت مهندسين متخصصين في تشغيل الطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة، ما يعكس انتقال الصراع في دارفور إلى مستوى جديد من التعقيد التقني والعسكري.
التطورات لم تقف عند هذا الحد. فقد أفادت مصادر محلية بأن ميليشيات “القوة المشتركة”، المتحالفة مع الجيش، منحت قيادة الفرقة السادسة مهلة زمنية محدودة لفك الحصار المفروض على مقرها العسكري أو إعلان الاستسلام. هذه المهلة التي تنتهي مطلع أكتوبر الحالي وضعت الجيش أمام مأزق حقيقي، خصوصاً بعد فشل محاولات الإنزال الجوي المحدودة وتعثر وصول التعزيزات من كردفان بسبب التقدم الميداني لقوات الدعم السريع. الوضع يعكس هشاشة البنية العسكرية للجيش في الإقليم، ويؤكد أن معركة الفاشر ليست مجرد مواجهة ميدانية، بل صراع على القدرة على الصمود في وجه حصار خانق.
وفي موازاة ذلك، أثارت تقارير عن تركيب أبراج غامضة في مناطق شرق الفاشر موجة من التساؤلات. مصادر محلية تحدثت عن وصول خبراء أجانب يتحدثون الفرنسية، قاموا بتركيب أبراج في مواقع استراتيجية مثل أم الحسين وأم كدادة وجبل حلة. ورغم غياب أي توضيحات رسمية، فإن المعلومات المتداولة ترجح أن هذه الأبراج مخصصة للتشويش والرصد والإنذار المبكر، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهات تتعلق بوجود دعم خارجي متطور لقوى منخرطة في الصراع، أو حتى تدخل استخباري أوسع من نطاق النزاع المحلي.
ما بين شاحنة محملة بقطع غيار في قلب الخرطوم وأبراج صامتة تُزرع على تخوم دارفور، يظل المشهد السوداني مفتوحاً على احتمالات متناقضة. الدولة تحاول تثبيت حضورها الاقتصادي عبر مكافحة التهريب، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحدياً عسكرياً وأمنياً يتجاوز قدراتها التقليدية، ويهدد بتحويل الصراع إلى ساحة إقليمية ودولية. هذا التداخل بين الاقتصاد والسلاح، بين التهريب والتقنيات الحديثة، يكشف أن الأزمة السودانية لم تعد شأناً داخلياً فحسب، بل باتت جزءاً من لوحة أكبر، قد تحدد ملامح توازن القوى في الإقليم بأسره.