على امتداد أشهر النزاع المسلح في السودان، برزت ظاهرة تجنيد الأطفال كأحد أخطر الانتهاكات التي تهدد جيلاً كاملاً، ففي مناطق متفرقة، خصوصاً التي تقع على خطوط التماس وأطراف المدن الكبرى، استُخدم عشرات الفتيان دون الـ18 في مهام عسكرية وأخرى لوجستية، راوحت بين حراسة نقاط التفتيش وحمل الإمدادات، وصولاً إلى المشاركة المباشرة في الأعمال القتالية.
بحسب مسؤول ملف الأسرى بمنطقة أم درمان العسكرية حسان عبدالحكيم، فإن “الجيش السوداني سلّم خلال فترة الحرب “30” طفلاً جُنّدوا قسراً من قبل قوات (الدعم السريع) إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر”.
وأضاف عبدالحكيم أن “هذه الخطوة جاءت في إطار الجهود المبذولة لحماية القاصرين وإبعادهم من مناطق النزاع”. متابعاً “في الفترة الأخيرة تم أيضاً تسليم “18” طفلاً آخرين إلى وزارة الرعاية الاجتماعية، بغرض تأهيلهم ودمجهم من جديد في المجتمع، وفق توجيهات القيادة العليا للقوات المسلحة”.
وأشار مسؤول ملف الأسرى بمنطقة أم درمان العسكرية إلى أن “هذه الأعداد تمثل جزءاً محدوداً فقط من الحالات الموجودة على أرض الواقع، وهناك تحديات كبيرة ما زالت قائمة في سبيل رصد ومنع عمليات التجنيد القسري للأطفال، بخاصة في المناطق التي يصعب الوصول إليها بسبب الأوضاع الأمنية”.
استغلال الفقر
هذه المعطيات تشير إلى اتساع نطاق الظاهرة، وهو ما تؤكده منظمات دولية عاملة في مجال حماية الطفل. وفي هذا الإطار قال محمد الأمين، أحد العاملين في مكتب حماية الطفل (اليونيسيف) بالسودان، إن “هذه الظاهرة آخذة في الاتساع منذ اندلاع النزاع المسلح، إذ سُجّلت حالات متزايدة لأطفال لا تتجاوز أعمار بعضهم الـ” 12″ تم إشراكهم في مهام عسكرية أو شبه عسكرية”.
وأضاف “المعلومات الموثوقة التي جُمعت من الشركاء الميدانيين تشير إلى أن هؤلاء الصغار استُخدموا في حراسة نقاط التفتيش، وحمل الإمدادات، وأحياناً المشاركة المباشرة في الأعمال القتالية”. وأردف “أساليب الوصول إلى الأطفال تختلف باختلاف المناطق والظروف، بعض الجماعات تعتمد على استغلال الفقر والوضع المعيشي الصعب لإغراء الفتيان بوعود مالية أو طعام، فيما يلجأ آخرون إلى تقديم وعود بالحماية من الخطر أو الانتقام، بينما تُسجَّل أيضاً حالات اختطاف وضغط مباشر على الأسر لإجبار أبنائها على الانخراط في هذا العمل”.
وزاد الأمين “في تقديري أن جهود إعادة التأهيل تبدأ فور تحرير الأطفال أو خروجهم من بيئة النزاع، إذ تعمل “اليونيسيف” بالتعاون مع وزارة الرعاية الاجتماعية واللجنة الدولية للصليب الأحمر على توفير الدعم النفسي والاجتماعي، وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم، أو توفير بدائل آمنة إذا تعذر ذلك، لكن هذه العملية معقدة وطويلة، نظراً إلى الصدمات النفسية العميقة التي تعرض لها الأطفال، وفقدانهم فرص التعليم، فضلاً عن استمرار القتال في بعض المناطق، مما يحدّ من القدرة على الوصول إلى جميع الحالات المحتاجة إلى الدعم”.
معاناة أم
روت والدة أحد الأطفال المجندين قسراً، وتدعى “فاطمة”، تفاصيل ما جرى لابنها البالغ “16” سنة، قائلة “كان ابني في الصف الثاني الثانوي يخرج كل صباح إلى المدرسة في تمام السابعة حاملاً كتبه ووجبة الإفطار. وفي ذلك اليوم ذهب إلى المدرسة كالمعتاد، ولم يكن هناك ما يوحي بأن شيئاً سيحدث. مع نهاية اليوم الدراسي لم يعد، حاولت الاتصال بهاتفه لكنه كان مغلقاً. بدأنا نسأل الجيران وزملاءه في المدرسة، لكن أحداً لم يعرف عنه شيئاً”.
واستطردت “بعد يومين جاءنا أحد الجيران ليخبرنا أنه شاهده عند نقطة تفتيش في أطراف المدينة يرتدي زياً عسكرياً ويحمل جهازاً لا سلكياً. لم أصدق فذهبت مع شقيقه الأكبر إلى هناك. ورأيناه واقفاً بين رجال مسلحين، لكن حين اقتربنا منه أوقفنا أحدهم وقال: هو الآن في مهمة عمل، ابتعدوا من هنا، ولم يسمحوا لنا حتى بالكلام معه”.
وواصلت فاطمة “مرت أسابيع ونحن لا نعرف أين هو. سمعنا لاحقاً من إحدى المنظمات أنه نُقل إلى منطقة بعيدة ويعمل في نقل الإمدادات وحراسة النقاط. كنت أخشى أن يدفعوا به إلى القتال. لم أنم ليالي طوالاً، وأتخيل دائماً أن طرقاً على الباب قد يكون خبر وفاته”. وزادت “بعد أربعة أشهر، أُعيد مع مجموعة من الأطفال إلى المدينة. كان صامتاً، لا يضحك، يتجنب النظر في عينيّ، وأحياناً يصرخ في نومه. لم يخبرنا بما جرى بالتفصيل، لكنه قال فقط: كنت أريد الرجوع، لم أكن أريد أن أكون هناك”.
حالات محدودة
يقول المحلل الإستراتيجي والباحث في شؤون النزاعات الطيب عبدالرحمن، إن “هناك مبالغة واضحة في الحديث عن انتشار واسع لتجنيد الأطفال في السودان. لا ننكر أن هناك حالات محدودة، لكن تصوير الأمر وكأنه ظاهرة عامة لا يعكس الواقع بدقة. في أغلب المناطق هناك وعي كبير لدى المجتمعات المحلية، وخطوط دفاع مجتمعية تمنع انخراط القاصرين في الأعمال القتالية”.
ويتابع “من المهم أيضاً الإشارة إلى أن بعض الصور والمعلومات المتداولة قد تكون مرتبطة بأطفال يشاركون في مهام غير قتالية، مثل حمل المؤن أو المساعدة في نقاط الخدمات المدنية الموقتة، وهو أمر لا يرقى إلى مستوى التجنيد العسكري المباشر”.
ويمضي في القول “هذا لا يعني أن الأمر مقبول، لكنه يوضح أن الصورة ليست سوداء بالكامل، وهناك جهود تبذل على الأرض، من الجيش ومنظمات المجتمع المدني، لضمان بقاء الأطفال خارج دائرة الصراع المسلح”.
كوابيس وانعزال
من جانبه أفاد اختصاصي الطب النفسي وعلاج الصدمات أحمد جلال، الذي تابع حالات لأطفال عادوا من التجنيد القسري في السودان، بأن “ما نراه على هؤلاء الأطفال بعد عودتهم ليس مجرد حزن أو خوف عابر، بل هو اضطراب عميق قد يستمر أعواماً. كثير منهم يعانون كوابيس متكررة، وصراخاً أثناء النوم، وانعزالاً عن العائلة، إضافة إلى نوبات غضب مفاجئة. بعضهم يفقد الرغبة في العودة إلى المدرسة أو اللعب مع أقرانه، لأنهم لم يعودوا يشعرون بأنهم مثل باقي الأطفال”.
وتابع جلال “التجربة التي مروا بها تُفقدهم الإحساس بالأمان، بخاصة عندما يضطرون إلى حمل السلاح أو مشاهدة العنف بشكل مباشر، أدمغتهم في هذه السن تكون في طور النمو، وعندما تتعرض لصدمة بهذا الحجم تتشكل ذكريات مؤلمة مرتبطة بالخوف المستمر”.
وبين اختصاصي الطب النفسي أن “إعادة تأهيل هؤلاء الصغار تحتاج إلى برامج طويلة الأمد، تشمل الدعم النفسي الفردي والجماعي، ودمجهم في أنشطة تعليمية وترفيهية آمنة، إضافة إلى إشراك أسرهم في العلاج، لكن الأخطر أن بعضهم إذا لم يتلق الدعم الكافي قد يجد نفسه منجذباً مجدداً إلى الحياة العسكرية أو المجموعات المسلحة، لأن بيئة العنف تصبح مألوفة بالنسبة إليه”.
تقوية القدرات
مدير إدارة الحماية الاجتماعية في وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية محمد الحاج، قال إن “حماية الأطفال من أخطار النزاعات المسلحة مسؤولية وطنية في المقام الأول، لكن لا يمكن إنكار أن هذه المهمة تحتاج أيضاً إلى دعم المجتمع الدولي. نحن في الوزارة نعمل حالياً على استقبال الأطفال الذين جرى تحريرهم من مناطق النزاع، وإخضاعهم لبرامج تأهيل نفسي واجتماعي تشمل الإرشاد الفردي، وإعادة دمجهم في التعليم، وربطهم بأنشطة مجتمعية آمنة”.
وأضاف الحاج أن “التحدي الأكبر الذي نواجهه هو أن النزاع ما زال مستمراً، مما يجعل من الصعب الوصول إلى جميع المناطق التي تشهد حالات تجنيد أو استغلالاً للأطفال. في بعض الأحيان نحصل على هؤلاء الصغار عبر عمليات تنسيق مع القوات المسلحة أو اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكننا نحتاج إلى آليات أسرع وأكثر أماناً للوصول إلى الضحايا مبكراً”.
وأردف مدير إدارة الحماية الاجتماعية في وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية “نطالب المجتمع الدولي والمنظمات الشريكة بتوفير موارد أكبر، ليس فقط لبرامج التأهيل، ولكن أيضاً لتقوية قدراتنا الميدانية، وتدريب كوادرنا على التعامل مع الأطفال الذين مروا بتجارب صادمة، فمن دون هذا الدعم سنبقى في دائرة رد الفعل، بينما المطلوب هو الوقاية والمنع قبل حدوث التجنيد”.