الغرب ليس كله كتلة واحدة، وليس من سبب لنعتقد ذلك. وطوال التجارب التاريخية كانت هناك مجموعات سياسية واجتماعية ومدنية في المجتمع الغربي تتحرك بضمير حي يتبنى القضايا الإنسانية من منظور أخلاقي وسياسي منحاز لحق الشعوب في ثرواتها ومصائر دولها.
ينظر الناس بدهشة شديدة لحملات التضامن في الدول الغربية مع الشعب الفلسطيني، ويبدون استغراباً شديداً لهذا التحول الكبير للشارع الأوروبي والأمريكي.
الأصوات المعارضة لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين العزّل تجد مكاناِ لها حتى داخل الكونغرس الأمريكي، وتضجُّ محطات الإعلام ومنابر السوشيال ميديا بأصوات الفنانين والصحفيين ونشطاء السوشيال ميديا المتضامنين مع الشعب الفلسطيني لدرجة طرد الإسرائيليين من المطاعم والكافتيريات في إيطاليا وإسبانيا..إلخ.
لماذا الدهشة والاستغراب؟ لأننا ظللنا نسمع لحملات تعبئة تقول لنا إن الغرب؛ أمريكا وأوروبا، بل العالم كله ضدنا، وإنه يستهدفنا في ديننا وثقافتنا ومواردنا، وإنه بالجملة عدوٌّ لنا.
صدَّقت بعض العقول هذه الفرية وتبنتها، واستخدمتها الطبقات الحاكمة في بلادنا وما جاورها لتبرير عجزها وفشلها في إدارة شؤون البلاد.
والحقيقة البدهية أن الغرب ليس كله كتلة واحدة، وليس من سبب لنعتقد ذلك. وطوال التجارب التاريخية كانت هناك مجموعات سياسية واجتماعية ومدنية في المجتمع الغربي تتحرك بضمير حي يتبنى القضايا الإنسانية من منظور أخلاقي وسياسي منحاز لحق الشعوب في ثرواتها ومصائر دولها.
هذه المجموعات والكتل هي التي أثّرت في الشارع الأمريكي ليقف ضد حرب فيتنام، وهي التي ناصرت حركات التحرر في العالم الثالث، وتبنت قضايا حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير.
هذا طبعاً لا يمنع أنه بالمقابل هناك مجموعات مصالح ضخمة اقتصادية وسياسية، تعمل على نهب واستغلال دول العالم الثالث ومحاولة إخضاعها عبر ابتزاز قادتها وشراء ذممهم بالرشاوي والهدايا، ومساندتهم ودعمهم ضد شعوبهم.
من المهم أن نعرف ونفهم هذا ونحن نتعامل مع العالم الخارجي، ومع الدول والحكومات والشعوب. هذا العالم فيه من تحركه الضمائر والأخلاق والمواقف المبدئية، وفيه من تحركه المصالح.
لا مناص من التعامل مع الجميع، بشرط أن نفهمهم ونعرف دوافعهم. ومن المهم أن نعرف مصالحنا بدقة، ومتى ما التقت مصالحنا مع مصالح دول أخرى ففي هذا خير وبركة، وإن تضادت المصالح فمصلحة بلادنا وشعبنا أولى باتباعها.
جهود القوى المدنية، وكل القوى والمجموعات الساعية لوقف الحرب، يمكن أن تلتقي مع توجهات ودول تريد للحرب أن تنتهي، لأنها تخاف من تأثيراتها على كل الإقليم، ولأن لديها مصالح في تأمين الملاحة البحرية، وتريد الالتفات لمناطق أخرى لديها فيها مصالح أكبر وأضخم.
مثل هذه اللحظات، التي قد لا تتكرر كثيراً، يجب اغتنامها والإمساك بها بقوة والاستثمار في الاهتمام المتأخر بالأوضاع الإنسانية في بلادنا لمحاولة الوصول لحل يوقف الحرب ويحقق السلام، وذلك قبل أن ينصرف الاهتمام بنا إلى مواقع أخرى أكثر أهمية وأكثر التهاباً بالنسبة للعالم الأول.