فراغ أكاديمي في السودان يضع جيلا كاملا في مهب الضياع

مشاوير - وكالات

لم تتخيل أماني، الطالبة في السنة الثالثة بكلية الطب، أن أحلامها ستتوقف عند جدران بيتها. فمنذ أكثر من عامين لم تفتح الجامعة أبوابها بسبب الحرب المندلعة في بلادها بين الجيش و”الدعم السريع” قبل أكثر من “29” شهراً، فيما تحولت دفاترها إلى أوراق قديمة مركونة في زاوية الغرفة. 

تقول عما تمر به من أزمة “أشعر أنني عالقة بين زمنين، لست طالبة ولا خريجة، وكل ما كنت أبنيه انهار فجأة”.

وواصلت “بعض زملائي اضطر إلى العمل في وظائف بسيطة لا تمت لتخصصاتهم بصلة، وآخرون هاجروا مع أسرهم إلى دول الجوار، في حين التحق عدد من أساتذتي بجامعات خارج السودان”.

أما حياتها اليومية، فتختصرها في القول “أستيقظ كل صباح بلا هدف واضح، صديقاتي تفرقن، منهن من هاجر مع أسرهن إلى مصر أو أوغندا، وأخريات تركن الدراسة تماماً. أنا أعمل أحياناً في محل ألبسة صغير حتى أساعد أسرتي، لكن بداخلي شعوراً أن عمري يهدر بلا مقابل”.

ببنما تقول مي الفاتح، التي تدرس علم الاقتصاد، “الإغلاق المستمر للجامعات جعلنا نفقد الإحساس بالزمن، نحن الآن في السنة الخامسة على الورق، لكن دراستنا لم تتجاوز مقررات السنة الثالثة، فبعض القاعات تحولت مساكن للنازحين وأقفلت أبواب المكتبات، أشعر أننا عالقون لا نحن طلاب ولا خريجون”.

أما محمد سليمان طالب الهندسة المدنية، فيروي معاناته قائلاً “اضطررت إلى مغادرة السودان بعد أن تعطلت الجامعة لأكثر من عامين، فالتحقت بجامعة خاصة في مصر. لكن المشكلة أن رسوم الدراسة مرتفعة جداً، وأسرتي لم تعد قادرة على الإيفاء بالدفع، لذلك أنا الآن مهدد بالفصل، ولا أعرف إن كنت سأكمل دراستي أم أعود بلا شهادة”.

أطفال خارج المدرسة

فراغ أكاديمي

يقول عبدالله الطيب، الباحث في شؤون التعليم العالي، “منذ اندلاع الحرب، أغلقت معظم الجامعات السودانية الحكومية والخاصة، ويقدر أن أكثر من “70” جامعة توقفت عن التدريس بصورة كاملة أو جزئية، وهذا يعني أن ما لا يقل عن “600” ألف طالب وطالبة وجدوا أنفسهم خارج القاعات الدراسية، بعض الجامعات حاولت تعويض ذلك عبر منصات التعليم الإلكتروني، لكن ضعف البنية التحتية وانقطاع الإنترنت حالا دون استمرار التجربة”.

ويضيف الطيب “الطلاب الآن خسروا ما لا يقل عن عامين دراسيين كاملين، وهناك دفعات كاملة مهددة بالضياع خصوصاً في الكليات العملية مثل الطب والهندسة، إذ لا يمكن تعويض الجانب التطبيقي عبر التعليم عن بعد. أخطر ما في الأمر أن السودان يعيش فراغاً أكاديمياً، وما يرافقه من تعطل في إنتاج الكفاءات التي يحتاج إليها البلد في مرحلة إعادة الإعمار”.

وعن الحلول الممكنة، يوضح الباحث في شؤون التعليم العالي أنه “من المهم دعم مبادرات التعليم عن بعد جدياً، عبر شراكات مع جامعات إقليمية لتوفير منصات مستقرة للطلاب السودانيين. كما يمكن استحداث مراكز امتحانات ومعامل عملية في دول الجوار، حتى لا يفقد الطلاب أعواماً إضافية. لكن الأهم أن يصدر قرار سياسي واضح بفصل مؤسسات التعليم العالي عن التجاذبات العسكرية والسياسية، لأن استمرار الوضع الحالي يعني ضياع جيل كامل”.

أطفال خارج المدرسة

نزف العقول

مع توقف الجامعات وتراجع الأوضاع، لم يتأثر الطلاب وحدهم، بل وجد كثير من الأساتذة أنفسهم مجبرين على الهجرة بحثاً عن بيئة أكاديمية مستقرة.

يقول حسن عبدالجليل، أستاذ الفيزياء في إحدى الجامعات السودانية، “اضطررت إلى مغادرة البلاد بعد أن توقفت الدراسة لأكثر من عام، ولم يكن أمامي خيار سوى قبول عرض من إحدى الجامعات المصرية، فالوضع في الداخل لم يعد يسمح بأي نشاط أكاديمي، إذ أغلقت الجامعات وتحولت إلى مراكز للنازحين. المؤسف أن مئات من زملائي في مختلف التخصصات هاجروا أيضاً، بعضهم إلى مصر وآخرون إلى أوغندا وتشاد وتركيا، والنتيجة أن السودان يخسر يومياً كوادر مؤهلة كان يمكن أن تسهم في بناء البلد”.

ويضيف “المؤسف أن الهجرة لم تعد خياراً شخصياً بل ضرورة، فالمرتبات في السودان لم تعد تكفي حتى لتغطية تكاليف المعيشة اليومية، ناهيك بالأبحاث أو التدريس. في المقابل الجامعات في الخارج توفر استقراراً مالياً وأكاديمياً، وتفتح المجال أمام البحث العلمي والنشر، بينما في الداخل توقفت كل المشاريع البحثية تقريباً”.

ويحذر أستاذ الفيزياء من تداعيات هذه الظاهرة قائلاً “إذا استمر هذا النزف، سيجد السودان نفسه خلال أعوام قليلة بلا كادر أكاديمي مؤهل. نحن نتحدث عن مئات الأساتذة الذين غادروا بالفعل، ومعظمهم من أصحاب الخبرة الطويلة. وهذا لا يؤثر فقط في الطلاب الحاليين، بل يهدد مستقبل التعليم العالي كله، ويجعل إعادة البناء أكثر صعوبة”.

أطفال خارج المدرسة

ساحة صراعات

يقول مصطفى عبدالله، المتخصص في شؤون التعليم العالي، إن “الجامعات في السودان لم تكن مجرد مؤسسات تعليمية، بل ساحة صراع بين القوى السياسية والعسكرية تاريخياً. وكثيراً ما حاولت الأحزاب استقطاب الطلاب والأساتذة، لكن الحرب الأخيرة عمقت هذه الظاهرة، إذ أغلقت جامعات بالكامل أو وظفت مبانيها كمقار عسكرية أو مراكز إيواء، هذا يعني أن العملية التعليمية باتت رهينة للحسابات السياسية أكثر من كونها مصلحة وطنية”.

ويتابع عبدالله “ما يحدث اليوم لا يمكن عزله عن الصراع على النفوذ، فكل طرف مسلح يسعى إلى إثبات حضوره عبر السيطرة على المرافق الحيوية، ومن بينها الجامعات، والنتيجة أن التعليم العالي أصبح ضحية مباشرة للحرب، وهو ما يهدد مستقبل السودان على المدى الطويل. وإذا لم يجر تحييد الجامعات فوراً وإعادتها لدورها الطبيعي، فسنخسر جيلاً كاملاً، ليس فقط في التعليم وإنما في المشاركة السياسية والمجتمعية أيضاً”.

في المقابل، يرى أحمد الطيب، وهو ناشط شبابي، أن “ربط الأزمة بالصراع السياسي فقط يغفل مسؤولية الدولة المباشرة، فالحديث عن الجامعات كساحة صراع سياسي فيه مبالغة، المشكلة الأساسية أن الحكومة لم تضع التعليم أولوية حتى قبل الحرب، فضلاً عن أن البنية التحتية كانت ضعيفة والمناهج متأخرة والتمويل شبه معدوم. واندلعت الحرب لتزيد الطين بلة، لكن إلقاء اللوم كله على الصراع السياسي يبرئ الجهات الرسمية من تقصيرها في إدارة ملف التعليم”.

وأردف “حتى الآن، لا توجد خطة واضحة لإعادة فتح الجامعات أو دعم الطلاب. ما نحتاج إليه هو إرادة سياسية حقيقية تضع التعليم فوق الخلافات، وتوفر التمويل والبيئة المناسبة. فالجامعات لا يجب أن تختزل في كونها ضحية صراع، بل في كونها مجالاً مهملاً منذ أعوام طويلة”.

أطفال خارج المدرسة

إحباط واكتئاب

لا يقتصر أثر توقف الجامعات وهجرة الأساتذة على الجانب الأكاديمي فقط، بل يمتد إلى الحياة اليومية والنفسية لجيل كامل من الشباب السوداني، إذ وجد كثيرون أنفسهم عالقين في فراغ طويل، لا هم طلاب نشطون ولا هم خريجون قادرون على دخول سوق العمل.

هذا الإحباط انعكس بصورة مباشرة على الصحة النفسية، بحسب تقديرات جمعيات شبابية ناشطة في الخرطوم، إذ تزايدت حالات القلق والاكتئاب بين الطلاب الجامعيين خلال العامين الأخيرين، مع ارتفاع معدلات التفكير في الهجرة، ولو كانت عبر طرق غير شرعية.

يقول معاوية يوسف، المتخصص في الطب النفسي، “الطالب الجامعي عادة يعيش مرحلة التكوين وبناء الهوية، لكن حين يجد نفسه فجأة بلا مسار واضح، يصبح عرضة للإحباط وربما الانهيار. نلاحظ اليوم ارتفاعاً في نسبة الشباب الذين يشعرون بعدم جدوى حياتهم اليومية، لأنهم فقدوا الدافع الذي كان يربطهم بمستقبلهم. الأخطر أن بعضهم صار يفكر في خيارات مدمرة، مثل المخاطرة بالهجرة غير الشرعية أو الانخراط في أنشطة غير قانونية”.

Exit mobile version