السودان: صمت السماء .. من ازدهار الطيران العام في الخرطوم إلى صراع الأبراج في دارفور

تقرير - رشا رمزي

في سبعينيات القرن الماضي، كانت سماء الخرطوم مسرحًا لحركة نشطة من الطائرات الخفيفة، تحمل معها صورة السودان المنفتح على مشروعات التنمية والتعاون الدولي. كانت طائرات “الجنرال أفييشن” – أو الطيران العام – جزءًا أصيلاً من المشهد، تملأ الأجواء بحركتها اليومية بين المزارع، والمشروعات القومية، ومقار الشركات الأجنبية، والمطارات الإقليمية التي كانت تنبض بالحياة. هذا القطاع لم يكن مجرد نشاط اقتصادي محدود، بل كان تجسيدًا لعصر بدا فيه السودان متجهًا نحو الاندماج في منظومة النقل الجوي العالمي، وفقًا لمعايير منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO).
في تلك الحقبة، ما بين 1975 و1985، تداخلت في أجواء الخرطوم أصوات محركات طائرات “ساسكو” و”كترانج” و”نايل سفاري” مع طائرات المساحة الزراعية التابعة لوزارة الزراعة، بينما حلّقت طائرات “شيفرون” النفطية فوق أدغال الجنوب، وأخرى تنفذ مهام المسح الجوي لمصلحة المساحة، في وقت كانت فيه بعثات الأمم المتحدة مثل اليونيسيف وبرنامج الغذاء العالمي تعتمد على النقل الجوي للوصول إلى المناطق النائية. بدت الخرطوم آنذاك نقطة مضيئة على خريطة إفريقيا في مجال الطيران العام، ومركزًا لإدارة عمليات إنسانية واقتصادية معقدة تمتد من دلتا جونقلي إلى تخوم دارفور.

مطار الخرطوم

لكن هذا المشهد بدأ يتلاشى مع تصاعد الاضطرابات السياسية في الجنوب. فاندلاع الحرب الأهلية الأولى أوقف مشروعات ضخمة مثل قناة جونقلي، وأجبر شركات النفط الأجنبية على تعليق نشاطها، بينما فقدت البلاد تدريجيًا ثقة الشركاء الدوليين الذين كانوا يعتمدون على الأجواء السودانية. ومع قدوم تسعينيات القرن الماضي، لم يعد في سماء الخرطوم سوى طائرات عسكرية، إذ اختنق المجال المدني بقرارات تنظيمية وسياسية أغلقت الباب أمام المستثمرين وأرباب الشركات الخاصة. تحوّل الطيران العام من نشاط إنتاجي متنوع إلى ذاكرة بعيدة، مع غياب قوانين واضحة للاستثمار في الطيران الخفيف، وتراجع الحوافز التشغيلية التي أوصت بها الإيكاو ضمن وثائقها التنظيمية (ICAO Doc 9734)، لتتحول المطارات الصغيرة إلى مدارج ترابية مهجورة.
هذا الفراغ الجوي لم يكن بلا ثمن. فقد خسر السودان شبكة نقل كانت تربط المناطق النائية بالمراكز الحضرية، وأصبح الاعتماد شبه الكامل على الطيران العسكري والبعثات الأجنبية في تنفيذ المهام الإنسانية. واليوم، بعد أكثر من أربعة عقود على أفول ذلك العصر، عادت سماء دارفور لتشهد نوعًا آخر من النشاط، لكنه بعيد كل البعد عن روح الطيران المدني.

دارفور

ففي الأسابيع الأخيرة، نفذ سلاح الجو السوداني غارات مكثفة على مواقع لقوات الدعم السريع في دارفور وكردفان، في حملة وُصفت بأنها الأعنف منذ بداية الحرب. دمرت الضربات مواقع وآليات في مناطق الخوى وأم قرفة، بينما طالت الغارات محاور عدة جنوب مدينة الفاشر، حيث قُتل عشرات المقاتلين، بينهم قادة ميدانيون بارزون. وفي الوقت نفسه، برز مشهد آخر على الأرض لا يقل إثارة للقلق، إذ رُصدت تحركات لفرق أجنبية تقوم بتأهيل مهابط طائرات قديمة في أم كدادة والكومة، وتركيب أبراج مجهولة في مواقع جبلية على امتداد الطريق الرابط بين الفاشر والأبيض.

Sudan, Internally displaced people in Zamzam camp who regularly received WFP food assistance on a monthly basis

الشهادات المحلية تشير إلى أن هذه الفرق الأجنبية – التي تضم عناصر تتحدث الفرنسية – وصلت في قوافل محمية بسيارات دفع رباعي مزودة بأجهزة تشويش متقدمة، ونصبت أبراجًا في مناطق أم الحسين وجبل أم كدادة وجبل حلة وبروش. هذه المواقع ليست عشوائية؛ فهي تقع على محور استراتيجي يربط دارفور بالعاصمة عبر طرق التصدير القومية. ومع غياب أي تفسير رسمي، تتزايد التقديرات بأن تلك الأبراج تُستخدم لأغراض استخبارية أو للرصد والإنذار المبكر، ما يعكس تحوّل المجال الجوي السوداني من ساحة مدنية إلى فضاء مراقب عسكريًا.

الخرطوم

الأكثر مأساوية أن هذه التحركات تأتي فيما تنهار المنظومة الصحية في الفاشر، التي شهدت مؤخرًا قصفًا مباشرًا على المستشفى السعودي للنساء والتوليد، أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص بينهم أطفال. القصف لم يكن مجرد حادث عرضي؛ بل جزء من سلسلة استهدافات متكررة للمرافق الطبية، في وقت تغيب فيه أي ضمانات لحماية المدنيين.
بين سماء الخرطوم التي كانت تضج بطائرات المسح الجوي في الثمانينيات، وسماء دارفور التي تخترقها اليوم طائرات مقاتلة وأجهزة تشويش، تبدو المسافة بين الحلم والانهيار هائلة. فالسودان الذي كان يمتلك بنية جوية مدنية متقدمة نسبياً، يعيش اليوم حالة من الفوضى التقنية والعسكرية التي تُهدد ما تبقى من مفهوم “السيادة الجوية”.

دارفور

ربما يعيد التاريخ نفسه بشكل ساخر؛ فحين تراجعت طائرات “الجنرال أفييشن” من أجواء الخرطوم، لم يكن أحد يتخيل أن المطارات التي كانت تُستخدم لنقل البذور والمساعدات ستتحول لاحقًا إلى قواعد للنزاع والدمار. ومع أن التوصيات الدولية ما تزال تؤكد أن الطيران العام عنصر أساسي في التنمية المستدامة، فإن تطبيقها في السودان يحتاج أولًا إلى استعادة السماء من صوت الحرب، وإعادتها إلى وظيفة النقل والبناء، لا المراقبة والاقتتال.
الطيران كان يومًا لغة للتنمية، ثم صار لغةً للسيطرة. وفي انتظار أن تصمت الطائرات المقاتلة، ربما تعود طائرات “الجنرال أفييشن” يومًا لتحلق من جديد فوق الخرطوم، حاملة لا الجنود، بل الأمل.

Exit mobile version