منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” في الـ15 من أبريل 2023، جرت محاكمات سريعة وعمليات إعدام ميدانية في مناطق متفرقة من السودان استندت في الغالب إلى بلاغات كيدية وافتقرت إلى ضمانات العدالة، مع تقييد وصول المتهمين للدفاع وظهور محاكمات عسكرية لمدنيين، مما زاد من معاناة أسر الضحايا وتعميق الفجوة بين المعايير الدولية للعدالة والواقع المحلي.
في مدينة مدني التي سيطرت عليها قوات “الدعم السريع”، اعتقل محمد رضوان بموجب بلاغ من جيرانه بتهمة التعاون مع القوة المسيطرة، لكن شقيقه روى عكس ذلك، قائلاً “أخي محمد لم يكن متعاوناً مع ’الدعم السريع‘، كان فقط عالقاً في المدينة لأننا لم نستطع مغادرتها، لأن كل من حاول الخروج تعرض للقتل أو الخطف، وأحيل شقيقي إلى محكمة عسكرية من دون حضور محام أو إتاحة أي فرصة للدفاع عن نفسه. ولم يسمحوا لنا برؤيته، ولم نعرف حتى تفاصيل التهم الموجهة إليه، وفجأة أخبرونا أن الحكم صدر وسينفذ خلال أيام”.
وأضاف شقيقه “بعد أسبوعين فقط نفذ الحكم بالإعدام، تاركاً حزناً عميقاً وصدمة كبيرة نتيجة الظلم، والشعور بغياب العدالة، لقد كان شقيقي ضحية بلاغات كيدية وانتقام شخصي وسط فوضى الحرب”.
لم تكن هذه الحادثة معزولة، إذ وثقت منظمات حقوقية عشرات القضايا المشابهة في السودان، وذلك بتوجيه اتهامات بالتعاون مع “الدعم السريع” ضد رجال ونساء، بعضهم حكم عليهم بالإعدام، وآخرون بالسجن أعواماً طويلة، في حين ارتبط كثير من هذه القضايا ببلاغات كيدية أو صراعات محلية، لتتحول العدالة في زمن الحرب إلى أداة انتقام تغيب معها الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة.
قوانين طوارئ
لكن كيف يرى القانونيون ما يجري من محاكمات خلال فترة الحرب بخاصة المتعلقة بقضايا التعاون والتخابر مع “الدعم السريع”، وبحسب المحامي والباحث القانوني مصطفى عبداللطيف فإن “النظام القانوني في السودان يقوم، نظرياً، على دستور 2005 والقوانين الجنائية والإجرائية المعمول بها، التي تضمن للمتهمين حق الدفاع والاستئناف والعلانية، لكن مع اندلاع الحرب، تعطلت المؤسسات القضائية الطبيعية، وتقدمت المحاكم العسكرية لتملأ الفراغ، والمشكلة أن هذه المحاكم تفتقر إلى الاستقلالية، وغالباً ما تعتمد على بلاغات من جهات أمنية أو عسكرية من دون التحقق الكافي، وهو ما يتعارض مع أبسط ضمانات المحاكمة العادلة”.
وتابع عبداللطيف “الإعدامات التي نفذت في الأشهر الماضية جرت في ظل إجراءات استثنائية لم يعلن عنها في الصحيفة الرسمية، ولم تصدر بموجب نصوص واضحة، بل في إطار ما يسمى قوانين الطوارئ، وهذا يخلق حالاً من انعدام الشرعية، لأن القانون الدولي والمواثيق التي صدق عليها السودان، مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تشترط أن تكون أحكام الإعدام مبنية على محاكمة عادلة أمام قضاء مستقل، وهو ما لم يتوفر”.
ويرى عبداللطيف أن “تنفيذ أحكام القتل استناداً إلى شبهات أو بلاغات كيدية يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية نفسها، التي تضع شروطاً صارمة لإثبات التهم في جرائم الحرابة أو الخيانة، مثل وجود بينة قاطعة أو إقرار صريح ولا يجوز شرعاً أن يقتل إنسان بناءً على خصومة شخصية أو شكوك، لأن الحدود تدرأ بالشبهات”.
ولفت الباحث القانوني إلى أن “ما يجري اليوم هو خلط بين القانون الاستثنائي والانتقام السياسي، مما يجعل هذه المحاكمات أقرب إلى إجراءات عسكرية سريعة لا تحقق العدالة، بل تعمق الشعور بالظلم وتزيد من أزمات المجتمع”.
ساحات صامتة
في السياق أوضحت سارة الرشيد، وهي محامية حقوقية تعمل مع منظمات محلية ودولية، “منذ اندلاع الحرب في البلاد تحولت قاعات المحاكم إلى ساحات صامتة يغيب عنها أبسط ضمانات العدالة، فالأحكام التي تصدر، خصوصاً في قضايا الاتهام بالتعاون مع ’الدعم السريع‘، تتم في جلسات عسكرية سريعة، لا يسمح فيها للمتهمين بالاستعانة بمحامين أو حتى إبلاغ أسرهم بالتفاصيل”.
وواصلت الرشيد “ما يحدث الآن يبتعد كثيراً عن أي معايير للعدالة، فهناك قضايا يبلغ فيها المتهمون بالتهم يوم المحاكمة نفسها، وأخرى تعتمد على اعترافات انتزعت تحت الضغط، لم يمنح كثير من المتهمين فرصة الدفاع أو الاستئناف، بل نفذت بعض أحكام الإعدام من دون إخطار مسبق لأسر الضحايا”.
واستطردت المحامية قولها “في الخرطوم ودارفور وولايات أخرى أجبر المدنيون على المثول أمام محاكم عسكرية بعد تعطل القضاء المدني، مما قلص فرص الطعن في الأحكام، فالقانون كان يتيح سابقاً استئناف الأحكام عبر محاكم عليا، لكن في الظروف الحالية بات الاستئناف شكلياً أو معدوماً”.
وزادت الرشيد “هذه الانتهاكات وثقتها منظمات حقوقية عدة، فقد سجلت ’العفو الدولية‘ و’هيومن رايتس ووتش‘ وقائع أعدم فيها متهمون بعد محاكمات جائرة، فيما رصدت اللجنة الأفريقية لدراسات العدالة تعديلات قانونية سمحت بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، كما أبلغ عن نساء ورجال حكم عليهم بالإعدام أو السجن أعواماً طويلة بناءً على بلاغات كيدية أو خصومات شخصية”.
ومضت المحامية الحقوقية في القول “العدالة في السودان لم تعد أداة لإنصاف المتهمين أو تحقيق الردع القانوني، بل تحولت إلى وسيلة انتقام في زمن الحرب، تسلب الأبرياء حقهم في المحاكمة العادلة وتعمق جراح المجتمع”.
ضمان الردع
في المقابل، يرى بعض المحللين أن أحكام الإعدام ليست مجرد إجراءات استثنائية، بل ضرورة لفرض هيبة الدولة وردع من يتعاون مع العدو في زمن الحرب، إذ يقول المحلل السياسي خالد موسى “نحن نتحدث عن ظرف استثنائي يهدد وجود السودان نفسه، وفي مثل هذه الحالات، لا يمكن أن نتوقع إجراءات قضائية مطولة كما يحدث في الظروف الطبيعية، فالمحاكم العسكرية آلية سريعة لحسم القضايا التي تتعلق بالخيانة أو التعاون مع ميليشيات ’الدعم السريع‘، وهذه جرائم تمس الأمن القومي مباشرة، وأن أي تراخ في معالجتها قد يؤدي إلى انهيار ما تبقى من الدولة”.
وأردف موسى القول إن “هذه الأحكام تفتقر إلى العدالة يتجاهل أن السودان يعيش في حال حرب، ففي كل الحروب هناك قوانين طوارئ تمنح السلطات صلاحيات أوسع لضمان الردع، وهذه الأحكام لها وظيفة رمزية مهمة، فهي تظهر للمجتمع أن من يتعاون مع الطرف الآخر سيواجه عقوبة رادعة، وهذا يردع آخرين عن التفكير في خيانة وطنهم”.
ولفت موسى إلى أن “الانتقادات الحقوقية الدولية تتجاهل السياق المحلي، فالمنظمات الخارجية تنظر من زاوية معايير دولية مثالية، لكن على الأرض الواقع مختلف، فبلادنا الآن في معركة وجودية، وهذه القرارات تبقي على توازن القوى وتمنع تسلل ’الدعم السريع‘ داخل المناطق التي يسيطر عليها الجيش”.
وختم المحلل السياسي بقوله “بهذا المنظور، تصبح أحكام الإعدام وفق أنصار هذا الرأي أداة سياسية ورمزية لحماية الدولة، حتى وإن جاءت على حساب بعض الضمانات القانونية”.
ظلم صريح
الناشط الحقوقي إلياس طه يرى أنه “على رغم تبرير السلطات بأن أحكام الإعدام وسيلة لحماية الدولة وردع المتعاونين مع ’الدعم السريع‘، فإن قطاعاً كبيراً من السودانيين ترى في هذه المحاكمات ظلماً صريحاً وانحيازاً واضحاً، فالأحكام تتركز غالباً على مواطنين بسطاء وموظفين محدودي الحيلة، بينما يتجنب القضاء العسكري ملاحقة قيادات عليا أو شخصيات نافذة داخل ’الدعم السريع‘”.
ويتابع طه “المحاكمات تستهدف الحلقة الأضعف، وهي المواطن العادي الذي لم يستطع مغادرة منطقته، إذ يتهم بالخيانة ويعدم، بينما القيادات الكبيرة التي ارتكبت جرائم حرب تظل بمنأى عن أي محاسبة، هذا الشعور بالانتقائية ولد غضباً واسعاً في الشارع، فبدلاً من أن تنظر هذه المحاكمات كإجراءات عدالة، تراها قطاعات من المجتمع كسلاح سياسي يخدم الجيش ويبرئه من المساءلة، بينما يحمل الأفراد العاديون كل التبعات، وتؤكد أصوات محلية أن غياب المحاسبة المتوازنة يعمق فقدان الثقة في النظام القضائي، ويحول العدالة من قيمة جامعة إلى أداة فرز وانقسام”.
تكريس العنف
يقول الموظف بإحدى المنظمات الدولية سليم يس إن “هذه الإعدامات لا تحقق الردع بقدر ما تعمق الشعور بالظلم، وبدلاً من تعزيز القانون، فإنها تزرع بذور انتقام جديدة في المجتمع، وتطيل أمد الحرب من خلال تكريس دورة العنف”.
ويتابع يس “أسر المحكومين تروي قصصاً مؤلمة، بعضهم فقد معيله الوحيد فجأة من دون محاكمة عادلة، وآخرون لم يتمكنوا حتى من تسلم جثامين أبنائهم، هذه الشهادات تعكس حجم المأساة الإنسانية التي تصاحب الأحكام، فمنظمات مثل ’العفو الدولية‘ و’هيومن رايتس ووتش‘ حذرت من أن غياب العدالة سيقوض فرص السلام، فيما شددت الأمم المتحدة على أن استمرار الإعدامات في ظل الحرب يمثل انتهاكاً صارخاً للمعايير الدولية”.
إطالة الفوضى
بينما يقول مسؤول سابق في وزارة العدل السودانية رفض ذكر اسمه “لا يمكن إنكار أن الحرب فرضت ظروفاً استثنائية، فما يصفه البعض بغياب العدالة هو في الحقيقة تطبيق لقوانين الطوارئ التي تسمح بتسريع المحاكمات في قضايا تمس الأمن القومي، فالمجتمع الدولي ينظر من زاوية مثالية، لكن على الأرض، فإن التراخي مع المتهمين بالتعاون مع ’الدعم السريع‘ يعني تهديد آلاف الأسر الأخرى، ويطيل أمد الفوضى”.
ويضيف المسؤول العدلي “الحديث عن آثار إنسانية لا يراعي أن هذه الأحكام تحمي حياة المدنيين في مناطق سيطرة الجيش، وتردع كل من يفكر في التواطؤ مع الطرف الآخر، لذلك فإن هذه الإجراءات، مهما بدت قاسية، تحمل في طياتها رسالة واضحة هي أن حماية المجتمع فوق كل اعتبار”.