” في الفاشر، تُختطف الأرواح، ويُنحر الجسد، وتُغتصب النساء، ثم تُغطّى هذه الفظائع بستارٍ مزخرف اسمه “محاربة الإسلام السياسي”. وحين يخلّفون وراءهم أنقاضًا موحشة وخرابًا ممتدًا، يزعمون أنّهم يؤسسون “دولة مدنية”.
قبل أيام قليلة، كنت في جلسة مع صديقي السوداني محمد النور، فاندفع يروي لي أهوال ما يحدث في الفاشر متسائلًا: لِمَ يبدو أنّ الناشطين السودانيين وحدهم من يلتفت إلى هذه المآسي؟ أين ضمير العالم؟ وأسئلة تُدمي القلب لكن، لا أحد يصغي.
هزّتني شهادته إلى حدّ أنّ النوم جافاني، فقررت أن أجعل كتابتي القادمة عن الفاشر، لكن بأسلوبٍ مختلف عن تحليلاتي السياسية المعتادة. سأكتب بلغةٍ تجمع بين الأدب والسياسة، بين السرد والتضامن الإنسانيّ، ليكون النص في جوهره نداءً للإنسانية.
قال لي محمد والألم يعتصره: إنّ أيام الفاشر تشبه المقبرة. الأصوات التي يسمعها الناس ليست سوى قذائف تسقط على البيوت، وصراخ أطفال يتضورون جوعًا. منذ أكثر من خمسمئة يوم والمدينة محاصَرة، مكتومة الصوت، لا يصلها شيء سوى الموت. ربع مليون إنسان في الداخل يحدّقون في الفراغ، وستمئة ألف آخرون في الخارج ينتظرون خبرًا أو كسرة خبز.
المدينة التي كانت تضج بالحياة تحوّلت إلى أنقاضٍ. ثلاثة وثلاثون مستشفى انهارت، ست مدارس لم تعد سوى جدران مثقوبة، ومئة طفل قُطعت أطرافهم أو بُترت حياتهم. تقول الأرقام إن مئة وثلاثين ألف طفل يعانون سوء التغذية الحاد، لكن الأرقام لا تروي رائحة الجثث في الشوارع، ولا عيون الأمهات اللواتي يخدعن أطفالهن بكوب ماء وكلمة كاذبة: “غدًا سيكون أفضل”.
في سبتمبر المنصرم وحده، مات ثلاث وعشرون امرأة وطفلًا جوعًا. قبلها مات مئة آخرون. كأنّ الموت صار عادة يومية. تقول الأمم المتحدة إنّ صور الأقمار الصناعية تكشف عن سواتر ترابية تطوّق المدينة بطول ثمانية وستين كيلومترًا، لم تترك ميليشيا الدعم السريع إلا فجوة ضيقة ليكتمل الحصار. من حاول الخروج على قدميه تعرّض للنهب أو الاغتصاب أو القتل. بعبارة أخرى، صارت المدينة سجنًا بلا أبواب، والسماء سقفًا من نار.
في الختام ، الفاشر السودانية، هي غزة أخرى في قلب القارة الإفريقية، لكنّها منسية.
هنالك أمل لفرجٍ قريب لغزة، وهذا يفرحنا، لكن لن تكتمل فرحة الأمة وأهلنا يموتون جوعًا في الفاشر، في دارفور، في السودان بفعل ميليشيا مموّلة من الإمارات، لا يُراعون فيهم لا إنسانية أو بشرية!
ساعدونا، لنوصل صوت السودان، لنصنع من مجاعتها ضجّة إعلامية عالمية أخرى، ولتكون الصرخة، نداء الإنسانية القادمة… تحدثوا عن الفاشر، تحدثوا عن السودان