مقالات

إبعاد الكيزان عن الجيش أم حل الجيش نفسه؟

حاتم الياس 

واحدة من الأخطاء، من وجهة نظري، التي تورطنا فيها كقوى مدنية عبر تاريخنا في توصيف الأزمة السودانية بشكل عام، وتجلت بأوضح صورها في هذه الحقبة “الإنقاذية” بشقيها المتمثلَين في عهدَي البشير والبرهان، هي اعتقادنا بأن الأزمة كلها تكمن في سيطرة الإسلاميين على الجيش وتوظيفهم لهذه المؤسسة. وبناءً عليه، كان يُظن أنه ما إن تنتهي هذه السيطرة ويعود الجيش إلى ثكناته، كما يشير الشعار الحالم، فإن “عربة الديمقراطية” ستستقيم في طريق الحكم المدني المعبد بالحريات والتداول السلمي.

أعتقد أننا وقعنا في خطأ لازمنا منذ الثورة وحتى هذه اللحظة التي تدور فيها الحرب، وهو الظن بأن الإسلاميين يسيطرون على الجيش. لكن، في واقع الأمر، الإسلاميون – أو الكيزان – هم أنفسهم مطية للجيش، وهو الذي يسيطر عليهم، وليس العكس.

علاقتهم مع الجيش، رغم وجودهم فيه، تشبه إلى حد بعيد علاقة “الرعاية” في الإعلانات، حين تتولى شركة تجارية كبرى رعاية نشاط ما، فيُقال: “هذا الحدث برعاية كذا”. الجيش، في كل حقبة، يحتاج إلى قوة سياسية تقوم بدور المعبّر عنه داخل المجال السياسي الوطني؛ أي حليف طبقي يتولى “تشطيب” الأيديولوجيا والخطاب السياسي للجيش وسلطته، ويُروج لشرعيته.

وهذه السلطة، في الأصل، هي الإطار البنيوي التاريخي الأساسي الذي يضطلع بمهام إدارة الحكم كسياق طبقي، يحافظ على ديمومة علاقات الهيمنة في دولة ما بعد الاستعمار. وفي كل مرة، يستبدل الجيش/الطبقة أدوات الخطاب السياسي التي تعبر عنه، وذلك بحسب طبيعة القوى السياسية الصاعدة، وتأثير التيارات الأيديولوجية في العالم، وتقاطعها مع الصراع السياسي الداخلي، وتبنّيها من قبل النخب.

لذا، أعتقد أن الإسلاميين حالة عارضة، وليست أساسية في المشهد، وهم في طريقهم للأفول محلياً وعالمياً. لكن الجيش – وهنا نقصد الجيش كمؤسسة طبقية تحتكر العنف والثروة والسلطة – يحتاج إلى كيان يعبر عنه. وفي هذه الحرب، نشهد محاولة تشكيل كيان جديد من المليشيات، والتنظيمات الموالية، وحتى كيانات مصطنعة كـ”كيكيل”، ليكون نواة سياسية تحل محل الإسلاميين.

باختصار، الأزمة ليست في تغلغل الإسلاميين في الجيش أو سيطرتهم على القرار فيه. يبدو أننا أخطأنا في قراءة المشهد، أو أن أحدهم، بذكاء، يريد أن يورطنا في هذا التفسير الذي تبنته القوى السياسية المناهضة للحرب وللكيزان، لأن الواقع يقول إن أزمتنا التاريخية تكمن في الجيش نفسه؛ فهو من يوظف الجميع لتكريس واستمرار هذا العطب التاريخي، المتمثل في الحروب وعدم الاستقرار.

لذا، سيكون من الأفضل ألا نتحدث عن إبعاد الكيزان عن الجيش وكأن كل الأزمة والمشكلة تكمن فيهم. هذا طرح سياسي بسيط، لكنه ليس ساذجاً، لأنه يبحث عن صيغة تحالفية مختلفة مع السلطة التاريخية. (بمعنى: “حقكم محفوظ، بس اقعدوا في الثكنات”). لكنني أعتقد أن الحديث يجب أن يتجه نحو معالجة أكثر جذرية للأزمة السودانية، وهي حل الجيش نفسه، وتكوين جيش جديد كلياً من كل القوى العسكرية والمليشيات الموجودة في السودان، ما يمكن من استئصال ذاكرة الانقلابات وسُعار السلطة.

علينا ألا نخطئ في اتجاه التفسير أو نكون حالمين، لأن اتجاه الجيش في معاداة أي حركة شعبية تسعى لتغيير علاقات السلطة التاريخية، هو نزعة بنيوية أصيلة. فالجيش نفسه كمؤسسة، تم بناؤه استعمارياً كآلية قمع لضبط التناقضات ولجمها، وهي حالة موضوعية، وليست مجرد هواية للانقلابات.

بالتالي، أي حراك شعبي تغييري سيجد الجيش له بالمرصاد، وسنشهد مئات الانقلابات من جديد. غداً سيذهب الكيزان (غير مأسوفٍ عليهم)، وستوفر البنية السياسية والاجتماعية تنظيمات أخرى جاهزة لتكون الحليف السياسي الجديد للجيش، وتتولى تبني رؤيته السلطوية. وهكذا تستمر دورة التخلف والحروب والانقلابات، وتظل حالة عدم الاستقرار هي النمط الأصيل الذي يميز سياقنا السياسي، وهو الطريق المثالي للطبقات الحاكمة للحكم ونهب الثروات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى