مقالات

شُراحبيل أحمد : المدينة تغني والغيتار يروي

عبد الجليل سليمان

وتتلوى أم درمان عند الغسق فيغمر أزقتها ضوء غامض يحرّك أرصفتها فتتنفس وتتمطى وتتلوى مع نغمات الغيتار، فتتشابك المدينة بالذاكرة والخيال. 

في هذه اللحظات يأتيك شُراحبيل من جهاتك كلها، يتدفق وينهمر عليك كشلال؛ مطرب ورسام،وسارد للحياة بألوانها وأصواتها، يزرع في الهواء إحساسًا حيًا ويغرسه في كل زاوية من المدينة؛ فيثمر كل شارع بالأحلام المرتجاة. 

في الهزيع الأخير من الطرب، تتسلل كلمات أغنية “الليل الهادي” بين المباني، فيتذكر العشاق حبيباتهم الغائبات ويحصون أوجاع وحدتهم وينتحبون سراً ويدندنون “سهدى وبعدك جنني”. 

الحنين يتدفق ويجرف الأزقة. تتنفس الجدران أشواقها، فتتحول المدينة إلى مرايا للذاكرة في اللحظة التي ينبثق فيها (عمك تنقو) من بين ثنايا أرواح أطفال السبعينات والثمانينات، فيتساءلون كيف تمكن شراحبيل من زرع كل هذا الخيال في عقولنا ؟ وكيف شكل هذا الرجل المبهر وجداننا بفرشاته وكلماته وموسيقاه ؟!.

تتغير الألوان مع حركات الجسم، ويشعل الفرح المدينة في “اللابس البمبي”، حيث “ميل شمال، ميل يمين، دوّر دور، دوّر دور، يا اللابس البمبي”؛ كل ابتسامة، كل حركة، كل لون يتحول إلى جزء من لوحة موسيقية حية، وكأن الغيتار نفسه يحكي قصة المدينة والأشخاص والحياة المتدفقة بين الأزقة.

الغيتار في يده ليس آلة صامتة، بل كائن يتنفس، يشارك القلب في النبض ويحول المشاعر إلى تجربة حسية. في أغنية “قلبي دق لما شفتك من بعيد”، تتسارع الدقات مع الكلمات: 

“قلبي دق لما شفتك من بعيد تنظر إلي ولما بان حسنك عرفتك، زاد في دقاتو شوية” فتتداخل المدينة واللون والصوت في لوحة واحدة متحركة، وتجعل كل لحظة على تجربة حية، حيث يتحول المستمع إلى جزء من المدينة، جزء من الأغنية، جزء من الإيقاع.

شراحبيل ليس مجرد مطرب أو رسام، بل لوحة موسيقية متكاملة تنبض بالحياة. كل أغنية خط، كل لون صوت، وكل نغمة شعور يتحول إلى عالم متكامل. كما غرس عمك تنقو الفضول والخيال في الأطفال، زرع الفن في النفوس الشغف والحنين والحلم، وجعل كل شارع ونهر وسطح بيت؛ حكاية موسيقية يعيشها الجميع.

في حضوره تختفي الحدود بين الواقع والخيال، بين اللون والصوت، بين الماضي والحاضر. كل مستمع يصبح جزءًا من لوحة حية، يذوب في النغم، ويتفاعل مع المدينة كأنها امتداد لروحه. حين تتردد كلمات “مين في الأحبة أخلص وحب”، تصبح ليست مجرد أغنية، بل تجربة وجدانية متكاملة، حيث يعكس الغيتار واللون والنغم الوفاء والحنين في آن واحد.

هكذا يظل شُراحبيل أحمد الأسطورة الحية، والفن الذي لا يشيخ، والأثر الذي سيظل خالدًا في ذاكرة السودانيين، تمامًا كما بقيت رسوماته دليلًا حيًا على قدرة الفن على تشكيل روح وخيال أجيال وأجيال، وعلمتها أن ترى الحياة بألوانها وأصواتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى