(١)
إنشغل الرأي العام مؤخرا ومازال ، بإستخدام روسيا حق الفيتو ضد مشروع القرار الذي تقدمت به المملكة المتحدة إلى مجلس الأمن ، بغرض حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية في السودان. ولم يخف على أحد الفرح الغامر الذي انتاب سلطة الأمر الواقع المصرة على استمرار الحرب لتعويض ما خسرته وتأكيد وجودها في الخارطة السياسية عند حدوث تسوية، وحديث منسوبيها عن النجاح الدبلوماسي الذي حققته، وتصريحات الشكر التي اطلقتها للدول الصديقة التي وقفت معها، في حين ان مشروع القرار صوتت معه اربعة عشر دولة ، ووقفت ضده دولة واحدة وليس دول، هي روسيا الاتحادية!! ساعد في تمرير هذا الوهم ، تسبيب روسيا قرارها استخدام حق الفيتو بنقدها للمشروع انطلاقا من أن المختص بحماية المدنيين هو سلطة الأمر الواقع ، متناسية فشل هذه السلطة الذريع في القيام بهذا الواجب بل قصفها المباشر للمدنيين، وملمحة إلى مبدأ سيادة الدول الذي تنازلت عنه علنا لمجلس الامن بموجب ميثاق الامم المتحدة، عند حدوث تهديد للأمن والسلم العالميين. ويبقى السؤال هل حقا استخدمت روسيا الفيتو لحماية سلطة الأمر الواقع (الصديقة)، التي نجحت دبلوماسيتها في إقناعها لإسباغ هذه الحماية؟ والإجابة حتما لا! فروسيا لم تستخدم حق النقض “الفيتو” إلا لحماية مصالحها المباشرة، وهذا ما فعلته هذه المرة أيضاً ، وفقا لحساباتها هي ، دون تدخل من دبلوماسية سلطة الأمر الواقع ، التي يرغب وزير خارجيتها الجديد في فتح البلاد للقواعد الأجنبية المنتقصة للسيادة، في مقارنة لبلادنا بجيبوتي بدلا من مقارنتها بسوريا ودور قاعدة طرطوس الروسية في صراعها السياسي الداخلي!!
(٢)
موقف روسيا أتى في سياق موقفها من الحرب في السودان، ومدى تحقيق مشروع القرار المقدم من المملكة المتحدة لمصالحها من عدمه، وفي إطار المحافظة على علاقة متوازنة مع طرفي الحرب في السودان “الجيش المختطف والجنجويد” معا، لا الانتصار لأي منها، بمستوى يضمن لها استمرار انسياب وصول الذهب المهرب، مع الحصول على قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، مع تواجد في قلب أفريقيا يأتي خصما على نفوذ الدول الاستعمارية التقليدية. فإستخدامها لحق النقض “الفيتو”، يأتي في إطار الحفاظ على توازن الضعف وتحقيق المصالح الروسية ، ولا علاقة له من قريب أوبعيد بمصالح الشعب السوداني. فهو من ناحية يحمي حكومة الامر الواقع من الفصل بين القوات وتكريس هزيمتها باعتراف بسيطرة الجنجويد على المواقع المسيطر عليها من قبل المليشيا، ومن ناحية ثانية يحمي الجنجويد من الإدانة بجرائمهم والتعرض للمساءلة عنها. وبالتالي روسيا حافظت على علاقتها بالطرفين ، وضمنت الموافقة على القاعدة العسكرية من سلطة الأمر الواقع ، ومواصلة تهريب الذهب من الجنجويد، فهي حمتهم معا. فروسيا – على عكس الدول الغربية- لا ترى أن طرفي النزاع في حالة توازن ضعف يسمح بفرض تسوية تحقق اهدافها في الوقت الراهن، وأن كفة هذا التوازن تميل إلى أحد الطرفين، وأن ايقاف الحرب سيخلق واقعا جديدا فيه نفوذ أوسع للدول الغربية، سوف يهدد مصالحها بشكل مباشر، في حين أن الدول الغربية ترى ان توازن الضعف وصل مرحلة تسمح بإيقاف الحرب وفرض التسوية التي ترغب فيها. ففي حين ترى روسيا ان استمرار الحرب يسمح لها بتحقيق مصالحها بصورة أفضل ، ترى الدول الغربية عن فصل القوات يحقق مصالحها بصورة أفضل. والصراع والكباش هنا حول أي مستوى من توازن الضعف يرغب فيه كل طرف لتحقيق مصالحه، وهو لا علاقة له بمصلحة شعب السودان او حماية المدنيين او توصيل المساعدات الإنسانية ، فهذه أمور تستخدمها الدول في سبيل تحقيق مصالحها، وتحققها في حال حدوثها كغطاء مقبول لهذه المصالح.
(٣)
والبعض يرى ان روسيا قد نجحت في هزيمة الدول الغربية كما ارادت، وردت الصاع صاعين للولايات المتحدة الأمريكية ، التي اصدر رئيسها أمرا رئاسيا قبل برهة من التصويت على مشروع القرار، يسمح فيه لأوكرانيا بمهاجمة عمق الأراضي الروسية، بإعتبار أن استخدام حق الفيتو جاء ردا على ذلك بالاساس. ودون اهمال اثر مثل هكذا قرار على الموقف الروسي، لكن هذه الإمبرياليات لا تتعامل في علاقاتها الدولية بردود الأفعال ، فهي قد تدير حربا ساخنة في مكان ما من العالم ، وتدخل في تسوية وتقسيم ريع منهوب في مكان آخر منه. فروسيا استخدمت حق الفيتو لحماية مصالحها في السودان ونهبها لموارده الاقتصادية والاجتهاد في الانتقاص من سيادته عبر الحصول على قاعدة عسكرية تؤكد وجودها في المياه الدافئة، وتكسر احتكار الولايات المتحدة الأمريكية للبحر الأحمر ، دون اهمال لرغبتها في تكريس توازن دولي يقوم على التهديد المباشر للمصالح في مناطق مختلفة ، كعقاب على تهديد مصالحها الوطنية المباشرة والإخلال بأمنها. وفي تقديرنا ان الدول الغربية لن تستسلم للهزيمة، لأن أمامها ثلاثة خيارات هي :
١- اللجوء للجمعية العامة للامم المتحدة واستصدار قرار بنفس الصيغة.
٢- استصدار القرار من منظمة الوحدة الأفريقية او الايقاد – وهو السيناريو الأسهل والأقل تكلفة.
٣- اخذ القانون باليد والتدخل العسكري بزعم ان هناك خطر على السلم والامن الدوليين كما تم في العراق.
وخلاصة ما تقدم هو أن الفيتو الروسي لم يستخدم لمصلحة شعب السودان ولا لمصلحة سلطة الأمر الواقع ، بل تم استخدامه لحماية مصالح روسيا وعلاقتها الممتازة بالطرفين المتحاربين معا. والمطلوب هو عدم اضاعة الوقت في إنتظار قرار دولي او فيتو يمنعه، بل النظر إلى الداخل لتكوين الجبهة القاعدية العريضة لايقاف الحرب، لتصبح الأداة الرئيسة لايقافها، المؤثرة في القرارات الدولية وفي استخدام الفيتو معاً ، حتى لا يضيع شعبنا في سياق صراع استعماري صريح، هدفه نهب الموارد وتكريس التبعية.
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.
(*) كاتب وقانوني