ألملم شعث الحرب التي مارت
نيرانها الكثيفة في دخيلتي، فالمرء حين تشكمه الحياة بالموت، تستطير فيه الهواجس، فما تغفو العين إلا ورأيت الرجال المدججين بالسلاح يسفكون الدم دون قداسة لطفل أو امرأة، أو حتى لرجاءات شيخ يضم طفلة شُجَّ رأسها والنجيع الغزير يغطي وجهها، كما غطت الفاجعة على قلبها الذي لم يَرَ في الوجود إلا الألوان الزاهية، واللعب البرئ، يرتجي الشيخ الجنود أن يسعفوا فلذة كبده، لكن الجندي الفظ يقول له: ” أسكت يا زول هسي بلحقك ليها” في تلك اللحظة السجفية المعتمة من أي ذرَّةِ رحمة، تفيض الطفلة، فاضت كلها بجسدها ونشيجها ودمها وروحها التي انسلت انسلال النسيم من بين ثنايا الأصابع.
ويْح الحرب التي يشهد كهولها موت أطفالهم، ويا ويل الذين يقتلون البراءة في مهدها!.
خرجت عشية مساء في يوم من أيام إبريل ومدينة أمدرمان التي لطالما مسحت عن وجهي الإعياء تبدو كجثة ضخمة، تضم آلاف المقابر، وجه أمدرمان الصبوح في المساءات بدا كأنما جثت الدنيا بثقلها على صدره الغض، والنيل مثل مُسنة تساقطت عنها الضحكات وهمس الرفيقات في حواري أمدرمان وأزقتها، يا أمدرمان يا أيتها الأنثى التي مازجت طفولتي فخلقتني وشاكلتني بسلام الكبار، ونغنغة الصغار، سلام على قلبك المُكابد للموت والقهر والذل والدم الحرام.
أقول: خرجت ناحية ود مدني مع بضعة خائفين مثلي يترقبون الموت في كل حاجز او صيحة ريح، كان الناس في بؤسهم كلهم أطفال كبار، والأطفال مثل بتلات تخشى الليل فتنكمش في رَوع، ومن مرة إلى أخرى تتحسس امرأة صدر صغيرها لتتيقن أن قلبه لا يزال ينبض. خرجنا من المدينة بعد تفتيش ونهب وهلع، وصاحب السيارة يبدو كالمسرنم كلما لاح له ضوء في جانب الطريق حوقل وركن السيارة لبضعة دقائق حتى يسترجع ويستبين أن الخطر لن يعدو الضرب والمساءلة والنهب والسلب. وتسأل نفسك كيف استقامت نفوس السودانيين بعد مئات السنين من التسامح وقبول حتى ملمات الأقدار ان يَقتلوا بعضهم البعض بحقد كأن رايات التسامح المرفوعة ماهي إلا رايات زيف، ويقول شيخ: تلك جريرة المتأسلمين من السياسيين اللابسين مسوح التقوى، فما رَعَوْا حق السودانيين الذين ماجت أصواتهم في ديسمبر يزيحون عن سماء السودان سواداً جثم فوق مواجدهم لثلاثين عجافاً.
خفَّتْ مظاهر الحرب والموت شيئا فشيئا حين لاحت مدينة “ود مدني”، وتنهمر الدموع حين تُخالج نفسك أهازيج “محمد الأمين” وهو يَهْصِرُ روحه لربوع ود مدني، وتسكن النفوس المرهقة من الذل الذي لاقته في طريق الموت، لكن ما هي إلا هنيهات وتحلق أسراب من طائرات مقاتلة، فيرتعب الحمام قبل أن ترتاع قلوب الصبية الواجفة. وتصيخ نفسي فأجدني غارقاً أفكر في الناس ومآلاتهم.