كان السودان بلدا واسعا وثريا بثقافاته، كان حقا “قارة تسكن بلدا”، يمتد في مساحة جغرافية تبلغ مليون ميل مربع، كان ذلك قبل أن ينفصل عنه شقه الجنوبي الثري بنحو ثماني ملايين نسمة مكونا دولة جنوب السودان المستقلة. انفصل جنوب السودان في العام 2011، لكن ظل تأثيره فعالا.
لقد كان بلدا مترعا بتعدد خبرات أهله الحياتية السحيقة، وغنيا بموارده البشرية والمادية والزراعية المهولة، وفوق ذلك، كان يتميز عن سائر البلدان الأخرى بالتعدد القبلي والإثني والثقافي، وكذلك تعدده الديني، ما يعني غناه بلا حدود.
لقد كان هذا البلد خليطا من الأجناس، فمنذ العصور السحيقة ظل منطقة جاذبة لعناصر بشرية عدة، وتشير الإحصاءات إلى أن العناصر المكونة للسودان تبلغ 65 مجموعة، تتفرع إلى 597 مجموعة عرقية، تتحدث أكثر من 400 لغة متداولة، لا يزال الناس يعرفون بها حياتهم.
مع كل هذا التعدد، كان السودان يحافظ على مستوى من التماسك الاجتماعي والثقافي، ومتعايش سليما إلى حد كبير، وذلك بخبرات حياتية قادرة على احتواء أي خلاف محتمل بين سكانه. وبالنسبة لطائفة معتبرة من علماء الاجتماع، كان من المؤمل أن يكون هذا التعدد مصدرا للقوة والنهوض في البلاد، وتكون رقعته الجغرافية المهولة مكانا مناسبا للاستثمار والتنمية، ومقصدا للدول الفقيرة في محيطيه، الأفريقي والعربي.
لكن لدوافع سياسية فوقية ومتشابكة، تم تجريف هذا الثراء المعطى، ما انعكس وبالا على البلد، ووصل إلى تخوم الحرب الأهلية المندلعة منذ شهر أبريل/ نيسان من العام الماضي، حين بدأ القتال السلطوي الشرس بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، وصل فيها الاقتتال إلى مستوى مهول من المكارثية وخطاب الكراهية المستعلي.
هذا الاقتتال بخطابه السائد سيقود إلى مخاطر قد تقود بدورها إلى تفتيت التماسك باشتعال النعرات والنزاعات لدى كل الجيران الذين كانت تربطهم مصالح مشتركة ومرعية، إذا لم يتم تداركه في الوقت المناسب، ويبدو أن كل الأوقات مناسبة وغير قابلة للتأجيل.
قاد هذا الخطاب فعليا إلى “حرب عبثية”، بتعبير قائد الجيش، بات معها السودان والمجتمعات السودانية على حافة الانهيار والتلاشي. وهذا هو الحدث المرعب، مثلما هو حدث مأساوي؛ لأنه بدا ضحلا، وبدا كما لو أنه بلا نهاية متوقعة.
كان التحليل السياسي الأقرب دائما هو أن منشأ النزاعات في السودان، الحديث جدا، هو صراع بين ثقافة المرعى، من جهة، وثقافة الحواكير الزراعية من الجهة الأخرى، ويشير أصحاب هذا التحليل إلى ما كان يجري سابقا في ولايات دارفور، على سبيل المثال، لكن مع مرور الوقت والإمعان في خطأ السياسات المرسومة، تعمم هذا الصراع وأخذ طابعا آخر، نزع فيه الخطاب السياسي إلى “تسييس القبائل وأدلجتها”، راسما صورة نمطية لكل قبيلة، وكل إقليم، مشكلا أحد أهم أسباب تغذية وتصاعد الحروب التي تجري فصولها في السودان حاليا.
في الواقع، وبشكل أو آخر، قد لا يشذ الحال في السودان عن يقية الأحوال في دول العالم الثالث، حيث تشكل بنية القبيلة، وليس القبلية، أحد مصادر القوة والهوية الثقافية، بيد أن ما جعل الأمر شديد الاختلاف هو ما جرى خلال الحقبة السياسية لفترة حكومة انقلاب الإنقاذ البائد (1989- 2019).
في هذه الحقبة جرى حقن القبيلة بمصل سياسي يجعلها قريبة من النظام واقتصادياته بطريقة أو أخرى، أو يبعدها عنه. وهذه حالة انطوت على “عصبية”، بتعبير ابن خلدون، طغت على أي مفهوم للوطنية الحديثة، وتطورت معها النزاعات القبلية، واتجهت نحو العنف وتصاعدت حدة الصراع المسلح، ليصبح هذا الصراع ظاهرة شاملة تتجاوز بخطابها العنيف طبيعة النزاع القبلي القديم، إلى نزاع حول الوجود والسلطة في أعلى مستوياتها.
وفي الواقع، لم يكن نظام الإنقاذ مستعدا لحلحلة الصراعات الطفيفة، الناشئة أو المحتملة، بل استغل هذه المشاكل وعمل على تأجيجها إلى أوسع مدى يمكنه من البقاء على سدة السلطة.
ربما كان التهميش وعدم التنمية، أو قلتها، هو أحد الأسباب المقنعة لرفع الأصوات السياسية المطالبة بالحقوق، وهو حق سياسي مشروع، لكن اختلاط هذا الخطاب برغبة حكومة الإنقاذ في المزيد من السيطرة، أجج النعرات ورفع حدة التوتر، وجعل الخطاب السياسي المطروح عبارة عن خطاب كراهية لا تحده حدود.. خصوصا مع الحرب العبثية المستمرة التي قد تجعل الجميع كما لو أنهم عقارب في زجاجة: كل عقربة تلسع الأخرى حتى الموت.
(*) صحفي وكاتب