اشير بداية الى ان ما سيأتي لا يعدو ان يكون سوى ملاحظات عامة حول تجربة المسرحي السودانى محمداحمد الشاعر واشارات عامة حول عرض “بابكول الايباتور” الذي قدم على خشبة المسرح القومي بامدرمان ضمن فعاليات مهرجان ايام البقعة المسرحية في دورته الخامسة عشرة في مارس-ابريل 2014.
قبل رفع الستار :
ربما يكون من المعلوم ان العمل الابداعي أياً كان لا ينفصل عن الرؤية الكلية لمبدعه على مستوى طرائق صناعة العمل و مستوى الرؤى والافكار، بمعنى ان ثمة ما يمكن وصفه “بالثيمات” الثابتة والمتحولة في هذه التجربة او تلك، اي ما يمكن ان يعني بشكل ادق “هوية المشروع الابداعي” للمبدع المعين والتي تتشكل غالبا من مجمل إنتاجه؛ فماركيز او الطيب صالح او الفاضل سعيد او درويش او سيدخليفة،على سبيل المثال ،نستطيع ان نلمس في مشاريعهم الابداعية ثوابت ومتحولات، هى ما تمنح هذه المشاريع شخصيتها و هويتها.
تأسيساً على الفرضية السابقة أدخل الى عوالم المسرحي محمد احمد الشاعر.
ربما انا ومثلي آخرون تعرفنا على تجربة الشاعر من خلال مهرجان ايام البقعة المسرحية ومنذ الدورة الثالثة في العام 2002م عندما قدم مسرحية ( حيص بيص ) على شرف المهرجان ثم تواصل حضوره بعد ذلك والى الآن، فقدم في دورات مختلفة مسرحيات ( سقط لقط ) ، (سقف القاع السابعة)، (الشوارع مليئة بالملائكة) ،(العبد ليس اسود دائماً) ، (ضل الليل)، والآن “البابكول”، هذا على مستوى المهرجان والذي من خلاله تعرف اكثرنا عليه، أما تاريخه المسرحي فيقول:ان علاقته بالمسرح بدأت منذ العام 1965م كممثل و في العام 1970م دخل الى عالم التأليف عندما كتب مسرحية ( المصير)،ومن ثم شق طريقه بشغف والتزام وكتب واخرج ومثل في العديد من المسرحيات والاعمال الاذاعية والتلفزيونية والتي منها مسرحيات :
-الانسان فى الميزان .
-الواق واق .
-الحد الفاصل بين الثابت والمتحرك .
-هبوط اضطراري .
-راجل ونص .
-الخروج للداخل .
-البدء الآخر .
-ضوء في آخر النفق .
-رفض خارج دائرة التاريخ .
-الكمدة بالرمدة .
-شنة ورنة .
-الحمام “بتشديد الميم الاولى” .
-أهل الكهف .
-الطرف الآخر للمسألة .
-المطمورة .
-معاني ذاك اليوم .
-ثلاثة معاني ووطن .
-الواطة راحت.
أما للراديو فقد كتب مسلسلي “الحلا بلة” و “معازيم من التاريخ” وكتب للتلفزيون عددا من الافلام ،نذكر منها:
-ذاكرة النيل .
-الأصبع الخامس .
-البن.
انها مسيرة طويلة فى عالم المسرح والدراما، تمتد منذ العام 1965 والى الآن ،بين مدينتي ودمدني والخرطوم.
عروض الشاعر في مهرجان البقعة :-
تبدو عروض الشاعر في المهرجان وكأن لها وقعا خاصا ،وربما يعود هذا الى استمرارها وتواصلها،فقد ظل الشاعر محافظا على مشاركته في المهرجان فنادرا ما كان يغيب عن دورة من الدورات منذ ان عرف طريقه للمهرجان وربما يعود ايضا لما تثيره عروضه من اسئلة عصية؛ فعروضه في الغالب لا يتلقاها المسرحيون على تنوع مواقعهم مثلما يتلقون العروض الأخرى حتى باتت عروضه وكأنها طقس خاص يصعب الغياب عنه،مما يعني ان عروضه باتت تفرض حالة من الترقب والانتظار ،يفرضان بدورهما طريقة للتعاطي والتلقي تقوم او هكذا ارى،على الدهشة او فلنقل على الحذر ….استطيع القول ان عروض الشاعر،كثيرا ما تخترق المسكوت عنه والممنوع عن طريق الحركة او عن طريق الكلام، كما انها وباستمرار تنهل من قاموس الحياة اليومية،لذلك تأتي في الغالب ملامسة لما يمكن ان نسميه المزاج العام للجمهور،بمن فيهم الفاعلون المسرحيون.
بابكول :
العرض من تأليف واخراج محمد احمد الشاعر وشارك في التمثيل فيه، محمد احمد الشاعر وانصاف مطر ومصطفى عبدالشكور…
يمكن القول و بصورة عامة ان اياً من عروض الشاعر لا تخلو من نزوع ولمسات فلسفية تحاول في ما تحاول ان تلامس الانسان في موقعه الاجتماعي وما يفرضه هذا الموقع من اغتراب وتشظي وفي نفس الوقت ما يفرضه هذا الاغتراب من محاولات لاستعادة التماسك والمقاومة،فمسرحه يحاول العـزف على اوتار النفس بأنامل رقيـقة متنوعـة، ففي عرض ( بابكول) موضوع مقالتنا و المأخوذ من حكاية من حكايات طبقات ودضيف الله .
نقف على “حالة” تقف في مقام ( البين بين) أي على حافة ماهو اسطوري و ما هو واقعي حيث تنهض هنا مجمل حكاية العرض بمحايثة كل عنصر منها للآخر “فاللغة الملفوظة” و”المكان” بمكوناته المختلفة و “الجسد” يتبدى كل عنصر منها محايثاً للآخر فالمكان الذي يجسد فضاء الحكاية يتراوح بين ماهو اسطوري وماهو واقعي فهو “بيت وخمارة ومسيد” وهو في مجمله يشكل ايقونة رمزية للعصر الذي تدور فيه الحكاية ( العصر السناري ) واللغة الملفوظة ايضاً تنهض على مفردات وابنية سياقية فى بعض مستوياتها تعبر عن لغة ذلك العصر ( تشبه لغة ودضيف الله) وفي مستويات أخرى تنهض على ابنية سياقية تعبر عن لغة الراهن وهي في مجملها تفيض باليومي والاسطوري وكمثال للابنية السياقية لذلك العصر:
“ماني مجنـون
لاقوني ناس المكنون
سقوني عسلاً مشنون”
وكمثال للابنية السياقية للغة الراهن:
“تتحدث المجالس .. ان الحرية تعمل صيانة ووقاية للمجاري البولية والكلى .. تنهار البيوت المجاورة للانداية بسبب تبول شاربي الحرية”.
أما الجسد ” الشخصيات” فتكمن المحايثة فيه وبشيئ من التعقيد في عملية التمثيل نفسها وذلك عندما تحايث الشخصية الدرامية ( منانة/ سلمان/الهميم / المؤدي نفسـه بمعنـى ان الممثل هنا “الشاعر مثلا” يذهب ويعود الى الشخصية التي يمثلها بشيئ من السلاسة والتعقيد في نفس الوقت عبر آلية التغريب ( كسر الايهام ) من خلال الاشتغال على ) تلك الجمل ذات الطابع الفلسفي ومن خلال الاشتغال على افعال مادية ذات صلة بالحكاية وفي نفس الوقت منفصلة عنها وداعمة لها كافعال “الصلاة والرقص والغناء وتغيير الازياء امام المشاهدين”.. وكذلك من الاشتغال على كسر الايهام بالطريقة المغلظة المعروفة وهي كسر الحائط الرابع… هذا (البين بين) وعبر هذه المحايثة هو ما يشكل مقولة العرض المركزية والتي تسعى لخلق فضاء من التصالح،والسعي عبر مراوحتها بين “الرتق والفتق” الذي تجسده الصورة المشهدية وتجسده مقولات العرض المختلفة فالسقيا والارواء عمل سلمان الاساسي يذهب الى جوف الحيران كما يذهب الى جوف المريسة… المكان الذي يؤسس مسـرحياً علـى الطريقة التقليـدية “مكان ثابت”يفتق ويخترق بشاشة خيال الظل والخشبة كمكان تقليدي للعرض يفتق ويخترق بكسر الحائط الرابع واللغة الملفوظة كاداة للتواصل يتم فتقها واختراقها بما يشي وكأنه كسر لتسلسل الحكاية.
يبني العرض نفسه عبر هذه العلاقات المتحايثة لا ليمثل سلمان الزغرات ومنانة والهميم ولا لكي يحكي حكايتهم وانما ليقدم ( لعبة ) تتوسل حكاية بطل يبدو مبعثر الهوية وفي الحقيقة هو ذاهب منها ، اليها وتتوسل خبرة العرض المسرحي في تحولاتها المختلفة .. لعبة تثير فينا الدهشة وتحتلنا بالاسئلة وتضعنا على ارجوحة المتعة ..
إنه عرض أو “لعبة” تعبث بكل شيئ وتتفنن في البعثرة والجمع كما تريد، لذلك فهي بقدر ما تفعل هذا تمنحنا فرصة ان نرتب ما نرى ، كما نريد .
ولعل هذه هي السمة الأساس في مسرح محمداحمد الشاعر..ربما.
(*) ناقد وكاتب