كانت غفوةٌ صغيرةٌ على متنِ ذلك البصِّ المتحرِّك من الخرطوم متَّجهاً إلى شرق السُّودان حيث تقبع قريتُنا الصَّغيرةُ الَّتي وُلِدَ وتربَّى بها والدي ولا تزال بقيَّةٌ من أُسرتِه تعيشُ فيها حتَّى الآن. كان البصُّ الممتلئُ بالفارِّينَ من ويلاتِ حربِ الخرطوم مثلي أنا وأسرتي، يمضي بسرعةٍ معقولة تتناسبُ مع كثرةِ ارتكازاتِ المليشيا الَّتي قابلتنا ابتداءً من بحري مروراً بارتكازاتها على طولِ شرقِ النِّيل.
غفوةً صغيرة، استيقظتُ منها في حالةٍ مُبهَمة، لا أستطيعُ أن أرى من حولي بوضوح، مشوَّشةَ الذَّاكرة وخائرةَ القوى. بصعوبةٍ تمكَّنتُ من تمييزِ أبي. كان يجلسُ على المقعدِ الَّذي بجانبي بجوارِ النَّافذة، شاخِصاً ببصرِه في الفضاءِ غير النِّهائي. لا أتذكَّرُ متى تبادلنا أنا وأبي المقاعد! أتذكَّرُ أنَّني أنا مَن كُنتُ أجلسُ بجوارِ النَّافذة. ذلك التَّعبيرُ على وجهِه أوجعَ قلبي، لا بُدَّ أنَّه يُفكِّرُ الآنَ في المصيرِ المجهول الَّذي يتَّجه إليه، في فُقدانِه لعملِه ومصدرِ رزقِه وفراقِه لبيتِه وجيرانِه. وضعتُ يدي على كتفِه مواسيةً، لكنَّه لم يُلقِ بالاً إلىّ كأنَّني لم أكُن هناك.
بدأتُ في التَّذكُّر شيئاً فشيئا. تذكَّرتُ الآنَ بأنَّ ارتكازاً للمليشيا قام بإيقافِ بصِّنا للتَّفتيشِ في منطقةِ الجيلي. دخل منها اثنانِ إلى متنِ البصِّ معتمرَينِ بنادقَهما. وقف أحدُهما بجوارِ السَّائق، بينما ظلَّ الثَّاني يتحرَّكُ جيئةً وذهاباً على طولِ المَمرِّ الفاصلِ بين المقاعد. أتذكَّرُ أنَّ الثَّاني وقف قُبالتي ونظر في عينيَّ مباشرةً نظرةً أصابتني بقشعريرةٍ باردة. أشعرُ الآنَ بصداعٍ شديد وأنا اتذكَّرُها. وضعتُ يدي على كتفِ أبي مرَّةً أخرى: “أبي هل لديكَ حبوب بندول؟”، لكنَّه لم يردَّ عليَّ، لم يلتفِتْ إليَّ حتَّى.. تجاهلني تماماً بطريقةٍ أدهشتني. لماذا لا يلتفِتُ إليَّ قَلِقاً كما هي عادتُه ويمنحني تلك الأقراصَ ثمَّ يهرعُ ليأتيني بالماءِ من تلك الحافِظة في مقدِّمةِ البصِّ ثمَّ يمسحُ بعدها على مقدِّمةِ رأسي وهو يهمِسُ بتلك الآياتِ الشَّافية. يدُه وهمساتُه تلك لطالما خفَّفت عنِّي هذا الصُّداع اللَّئيم الَّذي يُعاوِدُني كثيراً والَّذي شخَّصَه الأطباءُ بأنَّه صداعٌ نصفيٌّ يأتي هكذا دون أسبابٍ واضحة ولا علاجَ له؛ عليَّ فقط تحمُّلُ نوباتِه التي ستُعاوِدُني من فترةٍ إلى أخرى لا محالة، ومحاولةُ تخفيفِها عبر تناولِ المسكِّناتِ والاسترخاءِ حتَّى تزول.
أتذكَّرُ الآنَ أنَّ البصَّ تحرَّكَ بعد انتهاءِ التَّفتيش، لكن بعد خمسِ دقائقَ بالضَّبط لحِقَتْ بنا عربةُ تاتشر على متنِها نفسُ الرَّجلَيْن برفقةِ آخرينَ يُشابِهُونهما في الملبَسِ والأسلحةِ والنَّظرةِ المخيفة.
الصُّداعُ يشتدُّ عليَّ وأبي يتجاهلني.. حتماً سأجِدُ بعضاً من حبَّاتِ البندول في شنطةِ اليدِ الَّتي أحمِلُها. عليَّ أوَّلاً أن أجلِبَ لنفسي بعضَ الماءِ من مقدِّمةِ البص.. تحرَّكتُ مترنِحةً إلى حيثُ الحافظة، وجدتُ صعوبةً شديدة في محاولةِ فتحِها. لدهشتي، لم يتقدَّم أحدٌ لمساعدتي، بمَن فيهم مساعِدُ البصِّ المسؤول عن خدمةِ الرُّكَّاب، رغم أنَّني وقفتُ أمامه مباشرةً وطلبتُ منه أن يمنحني كوباً من الماء؛ لكنَّه تعاملَ معي كأنِّي غيرُ موجودة. لا طاقةَ لي بالجِدالِ والصُّداعُ يشتدُّ. عُدتُ إلى مقعدي، جلستُ وأغمضتُ عينيَّ مُحاوِلةً الحصولَ على بعضِ الاسترخاء -فهو يُساعد كما قال الطَّبيب- لكنَّ ذاكرتي الَّتي بدأت في الاتِّضاحِ لا تتركُ لي مجالاً للاسترخاء. تُهاجِمُ الأحداثُ رأسي بضراوة. أتذكَّرُ الآنَ أنَّ رجالَ المليشيا أوقفوا بصَّنا مرَّةً أخرى، حيثُ أمرونا جميعاً بالنُّزول، ثمَّ بدأوا في حملةِ تفتيشٍ عشوائيَّة لأمتعةِ الرُّكَّاب، بعدها أمرونا بالعودةِ جميعاً إلى البصِّ عداي! أتذكَّرُ ذُعرِي وعينيَّ اللَّتين تسمَّرتا على وجهِ أبي. أصواتٌ معترضةٌ تتعالى حولي أسكتتها طلقةٌ مدوِّية في الهواء، بعدها دوى صوتٌ ثخينٌ مُقرِف أتي من مكانٍ ما من جوفِ الكائنِ ذي النَّظرةِ المخيفة: “يا تخلُّوا البت وتمشوا ولَّا تموتوا كلَّكم هسَّة”. عندها سمعتُ صوتَ أبي، صوتَه العذب، كيف يُمكِنُ لصوتٍ ما أن يمتلكَ كلَّ هذه العذوبةِ إلى حدِّ أن ترتاحَ الى سَماعِه حتَّى قبل أن تُمَيِّزَ ما يقول، صوتَه الَّذي أُحِبُّ يُهمهمُ الآنَ بخفوتٍ وهو يجلسُ بجانبي. شعورٌ بالاسترخاءِ يتسلَّلُ إليَّ وأنا أستمع إلى همهماتِه، أميلُ برأسي قليلاً لِأتَّكئَ على كتفِه، لكنَّ ذكرى كلسعةِ النَّحلةِ جعلتني انتفِض.. صوتَه الَّذي أُحِبُّ يقولُ بصوتٍ عالٍ: “كلَّ النَّاس ترجع البص.. البت بِتِّي وأنا ضحِّيت بيها”.
بدأ الجميعُ بالرُّجوعِ إلى متنِ البصِّ وعينايَ لا تزالانِ مسمَّرتينِ على وجهِ أبي. كان أبي آخِرَ من عاد إلى متنِ البصِّ الَّذي انطلقَ بعدها ونظري معلَّقٌ به. لا أستطيعُ ولا أُريدُ أن أنظر إلى هؤلاء الوحوشِ الَّذين بدأوا الآنَ في الدَّورانِ حولي وهم يتبادلونَ كلماتٍ لا أُريدُ فهمَها، تتخلَّلُها ضحكاتٍ مُقرِفة. لم أعلم ما هو مصيري الآن.. تُرى هل سأموتُ بين أيديهم أم سأُصبِحُ من الَّلاتي يُسمُّونهم بالنَّاجيات؟! جسدي يرتعد.. الاغتصابُ مخيفٌ جدَّاً، أستطيعُ تخيُّلَ الأمر . والموتُ مخيفٌ أيضاً، لكنِّي أعجزُ عن تخيُّلِه.. لا أعرفُ كيف يكون.. لم يعُد أحدٌ من هناك ليُخبِرَنا عنه. ترى ماذا يُشبه؟ هل يُشبه إحساساً مفاجئاً بالوحدة.. بأنَّك لم يعُد مرغوباً فيك؟ أو ربَّما الغدرُ أو التَّخلِّي أو ربَّما يُشبِه تلك الرَّغبة الحارقة في شيءٍ لن تحصُلَ عليه أبدا.
وماذا إنْ أصبحتُ من النَّاجيات، هل سأنجو حقَّاً! أم سأظلُّ ممزَّقةَ الرُّوحِ ما تبقَّى من العُمُرِ، أو لربَّما وجدتُ يوماً ذلك الضَّوءَ في داخلي والقوَّةَ لشفاءِ روحي! ربَّما أصبحتُ أنا نفسي مصدراً للقوَّةِ والضَّوءِ لناجياتٍ أُخريات.. ما هي احتمالاتُ حدوثِ ذلك؟ لا بأسَ، ليس عليَّ إرهاقُ نفسي بالتَّفكير، فلديَّ الآنَ الأبدُ بأكملِه لِأُفكِّرَ بالأمر.
تلك الأنفاسُ الكريهةُ والأصواتُ المقرِفةُ الَّتي تقتربُ منِّي شيئاً فشيئاً، إنْ خيَّرتنيَ الآنَ في هذه اللَّحظةِ بين الموتِ والاغتصاب، تُرى ماذا سيكونُ خياري؟ ربَّما سأختارُ الموت. لكن، هل كان الموتُ بيدِه لِيكونَ خياري يوماً!
الآنَ أتذكَّرُ كلَّ شيء.. جسدي يرتجفُ بقوَّة، أنفاسي تتهدَّج، أحطتُ نفسي بذراعيَّ وانكمشتُ بعيداً عنه وأنا أنظر إلى جانبِ وجهِه وهو شاخصٌ في الفضاءِ غيرِ النِّهائي.
أتذكَّرُ عينيَّ مسمَّرتَيْنِ على البصِّ وهو يبتعدُ قليلاً ثمَّ يلتفُّ بشكلٍ سريع ومفاجئ لِيعودَ مندفعاً نحونا.
وجُه أبي خلف المقود.. أراه بوضوح.
أتذكَّرُ الآنَ حشرجاتِ صوتيَ الذَّاهل:
أبي ماذا تفعل؟
ماذا تفعل يا أبي؟