(١)
لا يكفي الحديث النظري المجرد عن توازن الضعف كأساس لتسوية حتمية قادمة بين الطرفين المتحاربين ، بل يجب قياس هذا الضعف ومؤشرات التوازن في حال تحولها في ارض الواقع وفقا لمسار المعارك، حتى نتمكن من التنبؤ بقرب التسوية وإمكانية حدوثها من عدمها. فالمليشيا الارهابية مثلها مثل الجيش المختطف والحركة الاسلامية المجرمة المختطفة له، تعلم أنها لن تستطيع تحقيق انتصار حاسم يقيض لها استلام كامل البلاد ويحولها إلى سلطة معترف بها دولياً. فهي بالرغم من أنها سلطة أمر واقع في مساحة تساوي مساحة فرنسا وألمانيا مجتمعتين ، لا تستطيع أن تعلن نفسها كحكومة تبحث عن اعتراف دولي. وعدم قدرة المليشيا على التحول إلى سلطة لغياب المشروع السياسي والآيدلوجي الذي يشكل غطاءا لهذه السلطة وللرفض الاقليمي والدولي لذلك التحول، هو أهم نقاط ضعفها، وضعف الجيش المختطف وسلطته، تتمثل في ضعفه العسكري وهزائمه المتكررة، وفقدانه السيطرة على معظم البلاد، وخضوعه التام للحركة الإسلامية المجرمة، وخروج سلطة الامر الواقع التي تديرها قيادته غير الشرعية من رحم انقلاب عسكري فشل في تعويم نفسه، ووقوعه في تقاطع المصالح الدولية صاحبة الاصرار الواضح على توازن الضعف لفرض تسوية تحافظ على تلك المصالح، وهذه المسألة الاخيرة يتساوى فيها مع المليشيا الارهابية بالطبع. لذلك لا بد من رصد التحولات في هذه العناصر المكونة لتوازن الضعف بصورة مستمرة، لتقديم قراءة حول مدى تقدم التسوية وتراجعها.
(٢)
ولا يفوت على فطنة القاريء ، ان التحول الذي يحدث في ساحة المعارك في الوقت الراهن، والذي يستخدمه دعاة الحرب من ادوات دعاية الجيش المختطف كمؤشر على انتصار حاسم له على المليشيا الارهابية، لا يعدو حالة كونه إعادة صياغة لتوازن الضعف وليس مؤشراً على ذلك الانتصار المتوهم. فالانتصارات التي حققها الجيش المختطف، قابلها انسحابات من قوات المليشيا للمحافظة على قدراتها القتالية. فتحرير سنجة وجبل موية قبله، لم ينتج عنه وقوع اي من أفراد المليشيا الارهابية في الاسر مثلا، وفي سنجة قامت بإنسحاب قبل يومين من دخول الجيش المختطف والمليشيات الحليفة له إلى المدينة وارتكاب فظائع يندى لها الجبين حسب بيان لجان المقاومة، تؤسس لاتساع احتمال تدخل دولي لحماية المدنيين. كذلك تصريحات قيادة الجيش المختطف غير الشرعية وخطابه التصعيدي، واجهه صمت مطبق من المليشيا الارهابية وغياب تصعيد مضاد، ليس إقرارا بهزيمة شاملة كما يحاول تسويقه مهيجي الحرب، ولكن اتساق مع اعادة صياغة توازن الضعف وتجهيزا لخطاب يتوافق معها. فالأنباء ترشح بأن المليشيا الارهابية تعيد تموضع قواتها، وتسحب بعضها من الجزيرة لتعزيز وجودها في العاصمة الخرطوم، والاتهامات تترى لها بالاستعانة بمرتزقة من أمريكا اللاتينية وتحديدا كولمبيا، مثلما يتهم الجيش المختطف بالاستعانة بمليشيات حبشية، في إشارة مهمة إلى بدء نضوب المخزون البشري اللازم للحرب لدى الطرفين، تؤكد أن تأثير المجتمع الدولي سيصبح أكبر. وتراجع القدرة على حشد قوات من السكان المحليين وفشل التجييش والتجييش المضاد، والركون إلى تجنيد المرتزقة، ومحاولة تحويل الحرب إلى حرب اهلية قبلية، جميعه يؤكد نضوب المخزون البشري وانحسار فرصة التوسع في التجنيد، ورسوخ توازن ضعف الطرفين، وإن كان يؤشر لتوسع دائرة تدويل الحرب وخروجها عن سيطرة الطرفين المتحاربين ايضا في مستقبل قريب.
(٣)
يواكب التحول في مسرح العمليات بتقدم الجيش المختطف والمليشيات المجرمة التابعة له، حراك على مستوى الحركة الإسلامية المجرمة المختطفة له. فالانقسام الذي حدث في قيادة المؤتمر الوطني المحلول استنادا لصراع صريح على السلطة التنفيذية في التنظيم لا على المشروع السياسي، يؤشر لرغبة المجموعة المطلوبة للعدالة الجنائية الدولية على تصدر المشهد والمساومة بخلاصها مقابل اي تسوية قادمة. فانتخاب قائد مطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية، يشير إلى ان الحركة الاسلامية المجرمة لا ترغب فقط في فرض نفسها على المعادلة السياسية عبر الحرب، بل تريد ان تفرض قيادتها القديمة نفسها على الشعب السوداني والمجتمع الدولي، وذلك لشعورها بأن وضعها اصبح افضل في ظل التقدم العسكري المحدود الذي حسن قدرتها على التفاوض عبر واجهة الجيش وأضعف المليشيا الأرهابية قليلا. كذلك نرى ان وزير الخارجية الجديد لسلطة الأمر الواقع المكونة من قبل قيادة الجيش المختطف غير الشرعية المتحكم فيها من قبل تلك الحركة، صرح بأنه يعمل على إعادة صياغة العلاقات الخارجية وازالة الخلافات، مع إعلان تأييده الصريح لانتهاك سيادة البلاد وإدخالها دائرة الصراع الدولي الساخن، بمنح القواعد العسكرية على البحر الأحمر، وتزامن ذلك مع انحسار الهجوم الرسمي على دولة الإمارات العربية، مما يؤشر إلى وجود اتجاه لتهيئة الأجواء لتدخل دولي متوازن لن يقود إلا إلى تسوية. واذا ربطنا ذلك بتقاعس سلطة الامر الواقع عن فتح بلاغات ارهاب ضد قيادة المليشيا الارهابية- ونحن ننادي بأن يتم ذلك من قبل السلطة الانتقالية المستقبلية عند المحاسبة- يتضح ان الباب ترك مواربا حتى يتم التفاوض مع هذه القيادة بالذات حول تسوية ما.
(٤)
وبأخذ جميع ما تقدم في الاعتبار، مع ضرب المسيرات في شندي وعطبرة الذي واكب انقسام قيادة المؤتمر الوطني المحلول، وتزامن مع تقدم الجيش المختطف عسكريا في بعض المناطق، نجد ان توازن الضعف مازال قائماً. فالمليشيا الارهابية مازالت تسيطر على معظم البلاد وتعزز قواتها في عاصمة البلاد، والجيش المختطف برغم تقدمه المحدود، خلفه تنظيم سياسي قيادته منقسمة وربما يتسع الانقسام ليشمل القاعدة على اساس قبلي وجهوي، والطرفين متهمين بإرتكاب فظائع ضد المدنيين، وهما معا مخزونهما البشري اللازم كوقود للحرب بدأ في النضوب، وهما معا اتجها لتجنيد المرتزقة في سلوك قد يؤدي لفقدان السيطرة على الحرب مستقبلاً، وايضاً قاما بتصعيد خطاب الكراهية المبني على اساس جهوي وقبلي، في محاولة لتحويل الحرب إلى حرب اهلية تسمح بتجييش حقيقي يوفر الفرصة لزج قوى بشرية جديدة في أتون الحرب. لذلك قامت المليشيا الارهابية بإستهداف مكونات عرقية معينة وقبائل بعينها في شرق الجزيرة، ويقوم الجيش المختطف ومليشياته المجرمة يإستهداف القبائل التي يصنفها حاضنة للجنجويد في مناطق سيطرته مثلما يحدث الان في مدينة سنجة. وكل ذلك يؤشر إلى رفض شعب السودان للحرب المدمرة الراهنة، وعجز طرفيها عن الاستمرار فيها بنفس الطريقة القديمة، وتوازن ضعف بينهما لن يعالجه سوى تحويل الحرب لحرب اهلية، وتدويلها بصورة أوسع عبر الزج بالمرتزقة، مما سيقود لتدخل دولي كبير، قد يطيح بهما معا بدلا من أن يفرض عليهما تسوية فقط.
والمطلوب هو مواصلة رفض الحرب وعدم تزويد اي من طرفيها بوقودها البشري، ومنع تحول الحرب لحرب أهلية بمواجهة خطاب الكراهية والتجييش، مع رصد جرائم الطرفين وتوثيقها وتوسيع دائرة التضامن العالمي لوقفها، والسير في طريق تعزيز خطوات تكوين الجبهة القاعدية العريض لوقف الحرب وطرد طرفيها من المعادلة السياسية.
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.
(*) كاتب و قانوني