عندما تصاعدت نيران الأزمة بين اسمرا والخرطوم في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي (قطع أفورقي العلاقات مع الخرطوم وطرد السفير السوداني واستضاف المعارضة السودانية وشارك في الأعمال العسكرية لها في شرق السودان، بينما استضافت الخرطوم المعارضة الارترية). في لهيب تلك الأزمة صرح الأمين محمد سعيد (سكرتير الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة حينها) تصريحه الشهير بأن ارتريا قادرة على زعزعة السودان كله عبر بوابة الشرق. حينها أطلق عليه الطيب مصطفى اسم (ديك العدة). الرجل ما كان ليصرح تصريحاً كهذا بدون ضوء أخضر من أفورقي شخصيا: والرسالة كانت واضحة الدلالة.
فهل يمكن أن يتحول شرق السودان من عنصر زعزعة أو (خميرة عكننة) إلى أداة للاستقرار والسلام على يد نفس الرجل؟
قد يقول قائل بأن تحولات السياسية تفرض كذلك تحولات على أرض الواقع، وبما أن (المتغيرات هي الثابتة) فيمكن لأفورقي تبديل قناعاته وتحويل الشرق إلى
أداة للاستقرار والسلام؟
لكن حقائق الجغرافية السياسية أكثر ثباتاً، نسبياً، من المتغيرات العارضة للسياسة. فعلى سبيل المثال: ظل الجنوب الجغرافي هو مصدر التهديد التاريخي الأول للأمن القومي الارتري، فيما عدا الفترات التي تعرضت سواحل البلاد لغزو أجنبي وأصبحت قواعداً للانطلاق نحو الداخل.
بنفس القدر ستظل حقائق الجغرافية السياسية لشرق السودان، تماماً مثل غربه، هي حقائق جغرافية سياسية. فتدريب ارتريا لقوات شرق السودان وتجهيزها للمشاركة لا يتم بدون موافقة ما من قبل الحكومة في بورتسودان (كما حظي الدعم السريع برعاية القوات المسلحة في السابق)، ولكن هنا تنبغي الإشارة إلى تفاوت الأنصبة والتأثير أو (كروت اللعب) بين اسمرا وبورتسودان، خاصة في ظل معطيات الأزمة الراهنة التي تعصف بالسودان. وهذا يعيدنا إلى مربع التاريخ والجغرافية السياسية مرة أخرى.
إضافة إلى ذلك يعتبر التعامل مع أفورقي مريحاً بشكل مثالي لأصحاب السلطة المطلقة الذي يشبهونه أو حتى الأنظمة الديموقراطية. فالرجل يعيش زمناً ممتداً في السلطة لا تهدده انتخابات، أو تحاسبه برلمانات، ولا يخوفه رأي عام معارض (فإذا أراد منح قاعدة فعل ذلك بدون تردد، وهكذا فعل)، رجل كهذا يسهل التعامل معه بالنسبة لكل الحكومات خاصة الحكومة في بورتسودان في ظل الأزمة الراهنة، ولكن حسابات أفورقي الخاصة بشرق السودان وغيره تظل دوماً حاضرة ومخالفة.
فدخوله ضمن دول (حوض النيل) رفع أسهم تدخلاته الإقليمية، فالوضع في السودان يخلق فرصة ذهبية له ليكون طرفاً في حلف ثلاثي حول قضية مياه النيل وعلى خصومه في الجنوب أن يقلقوا من نشوء استراتيجية مختلفة حول قضية مياه النيل فالإشارة موجهة للجارة.
وقياساً على تاريخ تأزم العلاقات بين اسمرا والخرطوم وتعارضهما الجذري، فشرق السودان هو قلم الرصاص المبري من جهتين والذي يمكن لأفورقي استخدام إيهما في كتابة ما يريد، على الأقل هذا ما يقوله التاريخ، وما يتبقى هو استنطاق الحاضر.
(*) صحفي وكاتب ودبلوماسي اريتري