• البارحة، ولسبب لا أعرفه، حلمت أنني في مدينة الأبيض، وفي سوق الأبيض الكبير، ولسببٍ أعرفه جيداً وجدتني أمام (صيدلية دقِّق) في أقصى غرب السوق، ورأيت بداخلها عمالاً يعملون بجدية شديدة وكأنهم يصبُّون أرضيتها لبناءٍ جديد، ثم انتهى الحلم !
تذكرتُ بعد ذلك، أنني وبعد مهاجَرَةٍ إستمرت إلى عددٍ غير معلوم من السنين، رجعتُ إلى الأبيض أواخر العام ٢٠١٨م فوجدتني غريباً فيها، وبالكاد أعرف أحداً ولا يكاد يعرفُني أحد !
فلقد توسعت المدينة وتمددت بحيث تغيرت كل معالم حدودها، كما تغيرت شخوص ووجوه ساكنيها، وكنت أتمشى بين أحيائها كغريبٍ تائه لا يستدلُّ على شي !!
• كنتُ قد قضيتُ فترة تدريبي الأولى وأنا طالب صيدلة في (صيدلية دقِّق) هذه لصاحبها أستاذنا وصديقنا وأخينا الأكبر د. محمد دقِّق، مما أتاح لي أن أتعرّف بعد ذلك، وعن قرب على تلك الأسرة الشايقية الكردفانية العريقة، وربطتني فيما بعد صداقةٌ حميمةٌ مع صاحبها د. محمد دقِّق، مع وجود الفارق الكبير في العمر بيننا، وأتاح لي ذلك أن أتعرف على كثيرين من شباب الأسرة في ذلك الوقت..
• وقد كانت صيدلية دقِّق صيدليةً مركزيةً ضخمة وشاملة بالفعل، يلوذ بها وبصاحبها أهل الأبيض في مسائل الدواء والتداوي، وكان يعمل فيها شبابٌ فنيون كأسراب النحل ما أزال أتذكر أسماء بعضِهم(ألفريد، يوسف، عواطف، محاسن، رشيدة، الحُر والذي كانت تناديه د. منى خوجلي بالحوري.. وآخرين) كما كانت الصيدلية قِبلةً لجميلات المدينة اللاتي ينشدن مساحيق وأدهان النعومة ونصائح اللدانةِ والجمال. وكنا شباباً ثلاثةً متدربين بين يدي د. محمد دقِّق (محمد حسن سيد أحمد الجمل، وصلاح أحمد العراقي، وأنا) وكنا نتدرب كذلك مع الدكتورة الصيدلانية منى خوجلي التي كانت تتناوب مع د. محمد دقق، وكنا نستمتع بالعمل والتدريب، وقد بدأت وقتها شخصياتُنا وعقلياتنا الصيدلانية في التكوُّن، وبدأنا ننصح المرضى ونجيبُ على تساؤلاتهم. كان هذا الشعور الباكر بممارسة المهنة يملؤنا بالفخار والإعتزاز، فكنا نحضر إلى دوامنا أحياناً قبل فتح الصيدلية ولا نغادرها حتى نسدل أبوابها المعدنية مع العمال والفنيين آخر الليل !!
• عندما رجعتُ في إجازتي تلك وجدت (صيدليتنا) قاعاً صفصفاً بالفعل، إذ كان قد إلتهمها قبل ذلك بوقتٍ وجيز حريقٌ هائل قضى حتى على جدرانها الأسمنتية، وعلى الأسقف والأبواب المعدنية بشكلٍ كامل، وبدت في عينيّ كجثةٍ هامدة تشبه أطلالَ الأقدمين، ويبدو أن (أسرة دقق) لم تشأ أن تعيد إليها الحياة قصداً بعد الحريق ربما لأن أستاذنا وصديقنا الغالي المحبوب دكتور محمد دقق نفسه كان قد فارق الحياةَ كلها، وبسرعة عجيبةٍ وصادمة رحِمه الله رحمةً واسعة في الخالدين 😭
• لم أجد في أطلالها أحداً ممن كنتُ أعرفهم، ولم أستطع أن أتعرف على أحدٍ من جيرانها الأقربين أو الأبعدين، ولا وجدتُ حواليها أحداً من أسرة دقّق المترامية لأقالده ولأبكي معه على صيدليتنا وعلى حبيبنا د. محمد دقِّق !!
• ثم سحبتُ خطواتي متثاقلةً وتجولتُ في بعض جنبات قلب المدينة مما كنت أعرف وأتآلف فوجدتُ نفسي بالفعل غريباً في بلادٍ غريبة !!
• كان في الجزء الجنوبي من السوق على جهة معارض شركة باتا توجد صيدلية ربما هي الأقدم في مدينة الأبيض وفي كردفان كلها لصاحبها د. إبراهيم وزوجته (البولندية)، وكانت هذه الصيدلية تعرف أحياناً عند العامة بصيدلية البولندية فلم أرَ لها أثراً!!
وكانت الصيدليات المشهورة كلها في داخل سوق المدينة، ولا يوجد ولا صيدلية واحدة في أحياء المدينة مطلقاً..
ويمكنني أن أتذكر صيدلية (أبو البشر.. الشفاء) بشارع النهود وفي هذه الصيدلية رأيت لأول مرة أختنا الراحلة د. عزيزة التي أصبحت فيما بعد مديرةً للصيدلية الشعبية. وكانت في نفس الشارع أيضاً توجد صيدلية محمداني لصاحبها وصديقنا فيما بعد الراحل الدكتور الفاتح محمداني الذي ألتقيته لأول مرة في الكويت ! وفي قلب المدينة كانت هناك صيدلية قمبور، وجوار السينما توجد الصيدلية الوطنية أو صيدلية أبو عجل..وبعد حين أفتتحت صيدلية كردفان الكبرى لصاحبها عمر الزين، والتي عمل فيها وأدارها قبل التخرج وبعده صديقنا د. عبد القادر مختار جبريل، ثم تبعتها الصيدلية الشعبية الرائدة والتي كما قلت كانت د. عزيزة هي المديرة الأولى لها رحِمها الله.
• الآن -كما أظن- لا وجود لصيدلية كردفان الكبرى ولا لصيدلية (البولندية) ولا لصيدلية محمداني ولا لصيدلية أبو البشر..ولست متأكداً من وجود (الصيدلية الشعبية) التي كنا نتغشاها ونحنُ بعدُ في أيام التدريب، ثم بعد التخرج، وحتى عندما رفعنا عصا التسيار إلى المهاجر البعيدة!
فلقد كانت محتشدةً بشاباتٍ يانعات جميلات باهيات كفراشاتٍ ربيعية، وكُن يتقافزن بين الأرفف والممرات كحماماتٍ زاجلات، وكُن بالكاد يبذُلن لنا السلام..ويا سلاااااام على السلام !!
• لقد إنتشرت الآن داخل أسواق المدينة صيدلياتٌ بلا حصر، متجاورات ومتلاصقات كدكاكين (التشاشة)، وانتشرت هنا وهناك صيدلياتٌ أخريات داخل الأزقة والأحياء..وفي المواقف، وفي كل حيث، ما شاء الله، تبارك الله!!
• ولقد كبُرت المدينة بالفعل وتمددت، ولكن يبدو أننا لم نكبر معها، فما زالت صورتها في أذهاننا على ما تركناها، فوجدنا أنفسنا فيها غرباء، لا نعرفُ أحداً ولا بالكاد يعرفنا فيها أحد !!
(*) كاتب واكاديمي سوداني
•••