
يحاول بعض القانونيين والسياسيين التفرقة بين حكومة الجنجويد الإرهابيين وحكومة الجيش المختطف، بزعم أن الحكومات لا يتم إتخاذ موقف سياسي منها إستنادا إلى توفر الشرعية من عدمها، بل من حيث كونها قادرة على الحفاظ على وحدة البلاد من عدمها حتى وإن كانت غير شرعية كحكومة المخلوعين نميري والبشير، ويؤيدون وفقا لذلك تفرقة إيجابية لمصلحة حكومة الجيش المختطف، بإعتبارها حكومة لمؤسسة دولة شرعية قادرة على الحفاظ على وحدة البلاد.
وهذه المزاعم خاطئة من وجهتي النظر القانونية والسياسية معا. فمن حيث القانون وحدة البلاد مرتبطة بمؤسساتها الدستورية وبشرعية هذه المؤسسات وليست بمنطق القوة الذي يشرعن الإنقلابات العسكرية وفقا لنظرية كلسن للقانون الخالص أو البحت.
فصاحب الحق والسيادة هو الشعب صانع الدستور الذي يؤسس لسلطة شرعية، من واجبها الحفاظ على وحدة البلاد. والدستور المؤسس للشرعية والوحدة المتلازمتان بإعتبار أن مصدرهما واحد هو الشعب، أماً ان يكون صادرا عبر شرعية دستورية أو شرعية ثورية عقب إنتفاضة أو ثورة. وأي دستور آخر لا يعط السلطة التنفيذية غير الشرعية ميزة باعتبارها ضامنة للوحدة عبر الاستبداد. فالموقف من الحكومات يتم وفقا لشرعيتها أولا، قبل برامجها السياسية، والقول بغير ذلك يشرعن الإستبداد والديكتاتورية الحفاظ على الوحدة! ولو تجاوزنا هذه الحقيقة التأسيسية، وقبلنا أن نظرية القانون الخالص هي الحاكمة للأمر ، نجد أنها لا تعط ميزة لحكومة الجيش المختطف، التي لا تستمد وجودها وشرعيتها وفرضها للوحدة من دستور أو قانون مؤسّس فرضته هي عبر انقلابها، بل تحاول ان تستمد وجودها وشرعيتها المزعومة من الوثيقة الدستورية المعيبة بالمخالفة لنصوصها مما يجعلها غير دستورية. اي أنها تستمد وجودها وشرعيتها من دستور لم تسنه هي، لا يمنحها وجودا دستوريا لأنها أتت عبر تعديلات غير دستورية فرضها انقلاب عسكري. والواضح ان هذه الورطة ناتجة عن محاولة الانقلابيين التمسح بالثورة عبر التمسك بالوثيقة الدستورية بدلا من الغائها وسن دستور يشرعن الانقلاب، حتى يتم تعويم الانقلاب باعتباره امتدادًا للثورة، والغريب ان هذا التمسك استمرّ بالرغم من الفشل الذريع لتعويم الانقلاب وشرعنت سلطته! ومفاد هذا هو ان ارادت السلطة شرعنت نفسها وفقا لنظرية القانون الخالص قيد الجدل والنقد، عليها إلغاء الوثيقة الدستورية المعيبة، والخروج إلى العلن بوثيقتها الدستورية غير الشرعية المقننة لمبدأ فرض الإرادة بقوة السلاح عبر الانقلاب العسكري أو الحرب كما فعل الجنجويد تماما، لتصبح حكومة انقلاب صريحة ومكشوفة، يتم إتخاذ الموقف منها استنادا لفعل الانقلاب لا التوحيد، وعبر رفض نظرية القانون الخالص نفسها المؤسسة للاستبداد.
وفي حالة إلغاء الوثيقة الدستورية المعيبة أو إبقائها ، تظل شرعية الحكومة الدستورية غائبة، ويظل الموقف منها مماثلا للموقف من حكومة الجنجويد، لعدم دستورية الحكومتين وعدم شرعيتهما معاً.
أما الآن ، فمؤسسة الجيش المختطف كمؤسسة الجنجويد، تستمدان شرعيتهما من الوثيقة الدستورية المعيبة، التي حددت طبيعتهما كمؤسسة عسكرية لا كسلطة ( يلاحظ ان الوثيقة المذكورة مازالت سارية المفعول ولم يتم الغائها وجميع التعديلات التي اجراها عليها برهان باطلة وغير دستورية).
ومؤسسة الجيش المختطف ليس لديها سلطة خارج مناطق سيطرتها، وبالتالي سياسيا هي غير قادرة على توحيد البلاد، خصوصا وأنها مختطفة من تنظيم سياسي وقيادتها قوّضت الدستور وخالفت القانون الجنائي وقانون القوات المسلحة نفسه وقوضت المؤسسية المزعومة. أما الجنجويد فهم رغم شرعيتهم الدستورية والقانونية كطرف مساوي للجيش المختطف مكون للمؤسسة العسكرية وفقا لشرعنة الوثيقة الدستورية المعيبة لهم، فهم ليس لديهم شرعية كسلطة، و لا يستطيعون توحيد البلاد من ناحية سياسية ايضاً.
لذلك الصحيح من ناحية سياقانونية، أن صاحب الصفة والقدرة في توحيد البلاد هو الشعب صاحب السيادة ومانح الشرعية. فمن ناحية قانونية، الشرعية وثيقة الصلة بالسلطة التي يمكن ان تحقق وحدة البلاد، والتوحيد بدون شرعية وبمنطق القوة عبر بناء دولة استبدادية، هو الذي أدى للتشظي الماثل وخطر التقسيم.
لذلك الموقف السياقاتوني الصحيح هو المساواة بين الحكومتين غير الشرعيتين وسلطتيهما، اللتان تكرسان الانقسام وتفشلان في التوحيد حتى على أساس الاستبداد.
وهذا يعني ان الموقف السليم، يجب أن يقرن توحيد البلاد بالشرعية التي تنتج سلطة الشعب، ويرفض الحكومتين غير الشرعيتين ويساويهما، لأنهما تفشلان في تحقيق مقتضى الشرعية اللازمة لسلطة قادرة على توحيد البلاد. يلاحظ ان سلطتي نميري والبشير استمدتا سلطتيهما من دساتير انقلابية، أما السلطة الحالية فليس لديها اي سند دستوري لأنها لم تمتلك شجاعة إلغاء الوثيقة الدستورية المعيبة حتى لا يقال عنها انقلاب كما ذكرنا أعلاه. وبالتالي هي غير شرعية حتى وفقا لنظرية القانون الخالص او البحت التي يقول بها كلسن.
ومؤدى ما تقدم، هو أن مؤسسة الجيش المختطف حتى وان قامت بتوحيد البلاد فعلا، وسنت دستوريا انقلابيا يخصها بعد إلغاء الوثيقة الدستورية المعيبة، تظل مساوية لحكومة الجنجويد من حيث عدم الدستورية وغياب الشرعية، كما تساويها في محاولة فرض الوحدة القسرية عبر قوة السلاح، وتساويها ايضاً من حيث صدورها عن مؤسسة فاقدة الشرعية لمخالفتها لقوانينها المؤسسية (قانون القوات المسلحة وقانون الدعم السريع )، ولقانون العقوبات كذلك، كما تساويها في محاولة تصفية الثورة وتقويض نظامها الدستوري ، وتساويها في الاستبداد السياسي، وفي فرض رؤية فصيل سياسي ورؤيته على الشعب، وفي شن حرب مدمرة على الشعب بهدف الحفاظ على سلطة احدى فئات الرأسمالية الطفيلية المعادية لشعبنا.
وعلى كل من ينتمي إلى ثورة ديسمبر المجيدة، مساواة حكومتي الجيش المختطف والجنجويد المعاديتين للثورة ولشعبنا، من حيث أنهما لا شرعية لهما ولا مبرر للتفريق بينهما من هذه الزاوية التأسيسية، باعتبار ان “الثورة ثورة شعب والسلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، وهذا هو أساس المساواة بين السلطتين اللتين لا تنتميان للشعب بل تعاديانه.
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.
(*) كاتب وباحث قانوني