
بصدور تقرير منظمة العفو الدولية الذي أكد المؤكد، وفضح إرتكاب مليشيا الجنجويد الإرهابية للعنف الجنسي على نطاق واسع، ووثق حالات عبودية جنسية وإغتصاب للنساء ظلت أبواق المليشيا الدعائية تنكره بإستمرار، تكون هذه الجريمة التي شكلت سلوكا مستداما لقوى تتبنى قوانين وقيم حرب القرن السابع الميلادي القائمة على الغنيمة واستعباد نساء العدو وتحويلهن إلى رقيق جنسي، مسألة لا سبيل لإنكارها أو التنصل منها بأي صورة من الصور. ويصبح القصاص من مرتكبيها ومن قيادتهم التي سلحتهم ومكنتهم من إرتكاب الجريمة وفشلت في السيطرة عليهم، أمرا مقدما على كل شيء. فواجب تحقيق العدالة لضحايا عددهن كبير وفقا للتقرير، لأن الإغتصاب كان سياسة معتمدة للإذلال وكسر المواطنين العزل في سلوك جبان يشبه هذه الوحوش غير المنضبطة، يصبح أمرا غير قابل للمساومة. ويبقى السؤال برسم الحركة الشعبية شمال حليفة الجنجويد في منصة (التأسيس) المزعومة، كيف ستتم محاسبة المجرمين المسؤولين عن هذه الجرائم وقيادتهم التي سيكون لها النصيب الأكبر في السلطة الإنتقالية المزمع تكوينها لعشر سنوات إنتقالية بل وحتى تنتهي الحرب كما نص الدستور الموقع؟ وكيف ستتم المحاسبة والمليشيا ستصبح الجسم الأكبر في الجيش المزمع تكوينه، ويكون لها نصيب الأسد في الأجهزة العدلية نفسها؟ ولا نظن بأن هناك عاقل واحد لا يعلم أن هذا التحالف قد أسس لإفلات واسع من العقاب، وتجاهل عذابات وآلام كل المغتصبات وأسرهن وخصوصا الأطفال الذين يعانون من الصدمات بسبب إغتصاب أمهاتهن أمامهن، والذين تم قتل بعضهم حين حاولوا مساعدة أمهاتهم ايضاً، ودونكم ما هو وارد بالتقرير المحزن.
وبالطبع الجرائم المروعة ليست حكرا على الجنجويد، فالجيش المختطف ومليشياته أيضاً يرتكبون جرائم خطيرة في هذه الحرب، قد ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. فقبل فترة وجيزة قام الجيش بقصف سوق طرة بدارفور وقتل مئات المواطنين العزل، كما تنتشر فيديوهات توضح قيام أشخاص يلبسون الزي الرسمي يقتلون المواطنين بالتصويب على رؤوسهم مباشرة، وأخرى يوقف فيها مواطنين داخل النيل وتتم تصفيتهم، وثالثة توضح القتل على الهوية والتعذيب المروع في جنوب الحزام بعد إسترداد الخرطوم، ورابعة توضح تصفية الشبان في بري من قبل مليشيات الحركة الإسلامية المجرمة المختطفة للجيش، ولم تقم قيادة هذا الجيش غير الشرعية ولا سلطة الأمر الواقع بمجرد فتح تحقيق أو مباشرة إجراءات حتى وإن شكلية لحفظ ماء الوجه والتأسيس لدفاع مستقبلي حين تأتي المحاسبة الآتية حتما، وهي بلاشك مسؤولة مسؤولية جنائية مباشرة عن هذه الجرائم إما عبر إعطاء الأوامر كما في فض الإعتصام بإعتراف الرجل الثاني في هذه القيادة على الهواء “حدث ما حدث” ، أو عبر التمكين والفشل في منع هذه الجرائم المروعة والقتل خارج نطاق القضاء والقانون، أو بالتواطؤ وعدم المحاسبة. ولن يسعفها بالطبع حينها الحديث عن المتعاونين مع المليشيا الارهابية، الذين يجب تقديمهم لمحاكمات عادلة لا تصفيتهم بواسطة الجبناء الذين هربوا إبتداءا وتركوهم تحت رحمة هذه المليشيا لعامين كاملين، وألقوهم مكتوفين في اليم ويطلبون منهم بوقاحة ألا يبتلوا بالماء!
والمثير للاشمئزاز هو أن القيادة غير الشرعية للجيش المختطف وسلطة أمرها الواقع، لا يكتفيان بالمسؤولية عن هذه الجرائم ، بل يستمران في التلاعب بالمواطن المغلوب على أمره سياسيا، عبر المناورة بالقوانين الدولية بمحاولة توظيفها للكسب السياسي الرخيص والتضليل عبر الظهور بمظهر الإمتثال للقوانين الدولية في ظل خرق مزمن للقوانين الوطنية وإرتكاب جرائم بالجملة. حيث تفاجأ الكثيرون عند بدء نظر محكمة العدل الدولية شكواهم ضد دولة الإمارات العربية المتحدة ، بأن الدعوى قائمة على الإبادة الجماعية لقبيلة المساليت لا على العدوان!! وهم يعلمون يقينا أن الدولة المدعى عليها متحفظة على اختصاص المحكمة بنظر مثل هذه الدعاوى في مواجهتها – وهذا حقها وفقا لقواعد القانون الدولي- بمستوى يسلب المحكمة الحق في نظر الدعوى، وهذا ما استقر عليه قضاءها. فوق ذلك هم يعلمون يقينا – أو على اقل تقدير يعلم محاميهم- أن هذا النوع من الدعاوى يستلزم وجود قصد خاص وعلم حتى يمكن وصم دولة ما بإرتكاب هذه الجريمة، مما يجعل الإثبات مسألة صعبة تقرب إلى الاستحالة . والسؤال هو لماذا اختارت سلطة الأمر الواقع غير الشرعية رفع مثل هذه الدعوى بدلا من رفع دعوى بالعدوان الاختصاص فيها متوفر وإثباتها سهل؟ والإجابة هي أن هذه السلطة غير الشرعية غير جادة في المقاضاة وأنها تريد توظيف القانون الدولي لتجميل وجهها القبيح وخداع المواطنين في الداخل. فهم ليس لديهم مصلحة في أن يكسبوا الدعوى ويخسروا الدولة المدعى عليها، لأنها مسيطرة على تجارة الذهب المهرب عبر مطار بورتسودان، ولأنها مسيطرة على النظام المصرفي السوداني – في حدود وجوده ، ولأنها ذات نفوذ كبير على مصر الداعم الأول لحكومة الأمر الواقع غير الشرعية، ولأنها مدعومة امريكياً وإسرائيليا، ولأن للقيادة غير الشرعية شركات منسوبيها من أهلهم تعمل في دبي، والمصالح المشتركة كثيرة ومتداخلة. فالغرض من الدعوى هو الحصول على دعم داخلي كامل بعد أن تم شيطنة الدولة المدعى عليها، وفي نفس الوقت إرضاء هذه الدولة وعدم الدخول في أي صدام مباشر معها. فإيداع دعوى ضعيفة يحقق عدة أهداف ، أهمها خداع المواطن البسيط بإتخاذ إجراءات الفشل فيها راجح والنجاح حظوظه اكثر من ضعيفه، وترك الإجراءات الصحيحة صاحبة الحظ الأكبر من النجاح، حتى يستمر الاستغلال المزدوج للمواطن مع تحقيق مصالح لا يمكن التنازل عنها مع الدولة الخصم، يستفيد منها أفراد الطغمة الحاكمة وأسرهم ومن يواليهم.
واليقين حتما هو أن الجرائم المروعة الواردة في هذا المقال، لن تمر ولن يفلت مرتكبيها من العقاب ولن يساوم شعبنا في تقديمهم للعدالة، وإن التضليل بإتخاذ إجراءات ضعيفة أمام محكمة العدل الدولية لتحقيق مكاسب سياسية سينكشف لا محالة.
وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.
(*) كاتب وباحث قانوني