مقالات

نحو “تَكّيك” سياسي عام ومُكرب

حاتم الياس

عند الشاعر الراحل (الدوش) في قصيدته الشهيرة “سعاد”، نجد مقطعًا يقول:

“تكّكت سروالي الطويل سويتلو رقعات في الوسط”،

وهي جملة شعرية مشحونة بصورة درامية ومشهدية ثرية، تُجسّد حساسية الشاعر في التعبير عن كرامة الذات في أحلك الظروف.

أتذكر أيضًا بيتًا شعريًا لصديق العمر، الشاعر مصطفى عجب، وردت فيه ذات المفردة (سروال)، حيث يقول:

“غيمة خلعت سروالها فوق غُصنٍ من العطش”،

وهو تصوير بديع يُحيل إلى عوالم من المجاز والتجريد.

ولا يفوتني أنني، في تسعينيات بعيدة، استعرت من مصطفى نفسه ديوانًا للشاعر الروسي مايكوفسكي عنوانه:

“غيمة في سروال”.

ننتقل من الشعر إلى اللهجة.

أهلنا في المغرب العربي يتحدثون دارجةً فصيحة وعربية إلى حد بعيد، على عكس ما يظنه بعض المشارقة، الذين يظنونها خليطًا من الفرنسية والعربية. هذا الظن الساذج يتجاهل حساسية المغاربة المفرطة تجاه أي مساس بهويتهم العربية والإسلامية. فدارجتهم ليست هجينة، بل تستند إلى جذور عربية عميقة. ولهذا لا يقولون “بنطلون” كما في مصر والسودان، بل يستخدمون “سروال” الفصيحة، بينما “بنطلون” لفظة أجنبية دخيلة.

في ذاكرتي أيضًا من بدايات الثمانينات، حين بدأت البضائع الصينية تغزو الأسواق، ظهرت سراويل داخلية ملوّنة أطلق عليها العامة في السودان اسم “نِكس العزابة”، وكانت تُباع في دكاكين الجملة والخردوات حول بنك الوحدة في سوق أم درمان.

وكانت موضع تندّر حين يظهر بها لاعب في ميدان كرة القدم في حينا ، وكأن ما هو خاص اقتُحم به الفضاء العام، في مخالفة صريحة للثقافة الحضرية الخاصة بأزياء الرياضة. غير أن “نِكس العزابة” اختفى لاحقًا من الأسواق.

وكما يقول الدوش:

“تكّكت سروالي”، أي أحكمت ربطه بـ”التِكّة”، والتكة في العربية الفصحى تعني الخيط الذي يُربط به السروال، سواء كان من كتان أو حرير. والتكّك فعل يُشير إلى إحكام الربط، وهو مجاز عن ضبط الهيئة وحراسة الكرامة، وحجب ما لا يليق كشفه.

وربما استدعى الدوش في خلفية هذا التعبير تلك الطرفة الشعبية المتداولة في ديار الجعليين، عن رجل مولع بالبطّان وضرب الدلوكة، اضطجع ليلة صيفية عاريًا كما خلقه الله، وما إن سمع من بعيد صوت “الدلوكة” قادمًا من بيت اللعب، حتى قفز بحماسة، ارتدى جلابيته وانطلق. دخل ساحة العرس متحمّسًا، وخلع جلبابه استعدادًا للمُجالدة. لكن الكارثة كانت أنه نسي أن يرتدي سرواله قبل الخروج، فكانت فضيحته المدوية، التي أنهت فاصل “بطولته” في لحظة!

والتاريخ، في ظني، هو أيضًا “سروال كبير”.

فكل قوة سياسية، كبرت أو صغرت، يجب حين تلبس سروال التاريخ أن تُحكم رباطه، “تتكّكه” كما فعل بطل “سعاد”، بمقاس يناسب اللحظة، ويضمن السترة، والثبات في مشهد المتغيرات.

لا يصح للسياسي أن يغتر بخيالٍ فضفاض، أو أن يظن نفسه قادرًا على مجاراة كل حركة، لأن التاريخ – كالبحر في طرف الصحراء – ماكرٌ وخادع. من لم يتعامل معه بحكمة وحذر، سيخذله أمام عيون العصر المفتوحة.

ما أود قوله هنا، ببساطة، أن على القوى السياسية أن “تتكّك سروالها جيدًا”، قبل أن يفضحها التاريخ، ويُحوّل ذلك التغيير العظيم الذي أنجزه شعبنا بكرامة إلى حالة من العُري في “السهلة”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى