
هناك من يتهم الحزب الشيوعي السوداني بالوقوف مع الحرب ودعم الإسلاميين في تقويض التحول الديمقراطي.؟
نعم، هنا هنالك بعض الاتهامات للحزب الشيوعي بأنه متماهٍ مع خط بورتسودان السياسي ومتوَاطئ معه.
لكن أعتقد أن هذه الاتهامات خلطت بين موقف الحزب كمؤسسة وبين بعض عضويته في فضاء العمل العام، وخصوصاً الملتيميديا، التي تبنَّت آراءً منحازة لجانبٍ في هذه الحرب.
الحزب نفسه، في تصريحات بعض قادته، أكد أن هذه الآراء تُمثل أصحابها ولا تُعبِّر عن الرأي الرسمي للحزب.
ولن ننسى الحادثة الشهيرة حين قام بعض أفراد من مجموعة طلابية تنتمي للجبهة الديمقراطية في جامعة الخرطوم بإصدار بيان باسم الجبهة الديمقراطية لطلاب جامعة الخرطوم، قالوا فيه صراحة بدعمهم لجماعة بورتسودان وميليشياتها التي ترتدي بزّة الجيش.
لكن، وبما أن الجبهة الديمقراطية هي مجموعة متحالفة مع الحزب، وتأثير وجود الشيوعيين داخلها مؤثر، فقد تم نقد هذا البيان من قِبل مركزية الجبهة الديمقراطية للطلاب، واعتبرته بياناً صادراً من مجموعة خارج الأطر التنظيمية للجبهة الديمقراطية، وتم “قتله الكمده بالرمده”. كما يقول المثل.
عموماً، ورطة بعض عضوية الحزب مفهومة في سياق التحليل المادي التاريخي نفسه، فالحزب قبل أن يكون مؤسسة سياسية تتبنى الفكر الماركسي ومنهج التحليل الطبقي، هو نفسه يُعبّر عن محتوى طبقي واجتماعي لجماعات من الطبقة الوسطى المدينية، المنحدرة من طبقة الأفندية، التي كشفت هذه الحرب عن خط المصالح الشفاف الذي كان يختفي خلف الشعارات.
ويتجلّى ذلك في مصلحتها في أن يبقى جهاز الدولة بكيزانه وجيشه وطابعه القديم، الذي يرعى مصالح هذه الطبقات، حتى ولو من جهة معارضته، إذ إن المعارضة نفسها محكومة بنسق سياسي لا يمس المصالح الاقتصادية والاجتماعية، والتي تلتف كلها حول جهاز الدولة.
هذه الجماعات، رغم ادّعائها الجذرية والراديكالية عبر هتاف “العسكر للثكنات، الجنجويد ينحلّ”، هي في الواقع، عكس خطابها الراديكالي، مجموعات محافظة جداً على الوضع القائم.
إنها تريد أن تحتكر عملية التغيير والثورة، لكي تصبح، كالعادة، حالة مساومة سياسية بين العسكر والمدنيين، تُنجز تحولات في الشكل السياسي للسلطة، ولكن لا تمس الهيكل التاريخي والاجتماعي لها.
بمعنى آخر، هي تريد أن تستمر المقايضة التاريخية، التي سمّيناها ثورات، بين الشكل العسكري والمدني. وقمّة طموحها الثوري أن يذهب العسكر إلى ثكناتهم، ويرتاحوا من انقلاباتهم، وأن يتبخّر الجنجويد في الهواء، وكأنهم حالة عارضة في التاريخ، يجب أن تلزم واديها وقراها، وألا تكون لها مطالب تُعبّر عن مجتمعاتها، أو حتى عن رؤيتها للسودان.
لكن، أعتقد أن الحزب نفسه واقع في مأزق نظري وفكري من جهة إنتاج الأفكار، التي تفصل بين الخطاب السياسي التكتيكي وبين إطلاق القدرة المنهجية والنظرية للإحاطة بالمشهد، وتقديم أسئلة قادرة على اختراق وتحليل البنية الاجتماعية والطبقية التي قادت للحرب نفسها.
ومن بين المظالم التاريخية، حالة الإقلاع الشرس لهذه الجماعات، التي يُسمّونها “جنجويد”، من أنماطها الاقتصادية لصالح شراهة الاستهلاك واكتساحها بأنماط التسليع. وحينما يتحرك هؤلاء المنتجون في مناطق الصمغ العربي والمواشي والبترول مطالبين بحقهم في السلطة، يُقال لهم: “انحلّوا”.
هنالك ماركسيات عديدة، وتنظير وافٍ ومبدع في تحليل مآزق دولة ما بعد الاستعمار، أو كما سماها سمير أمين: “الدولة الطرفية”. لكن العمل الفكري للحزب يتعاطى مع ماركسية كلاسيكية تقوم بدور “الترزي” للمشهد السياسي، دون قدح أكبر في الإمكانات النظرية المتاحة، أو حتى استخدام ما تركه عبد الخالق ونقد.
سألت صديقاً شيوعياً في موقع قيادي: ماذا كان سيفعل نقد لو كان حيّاً وشهد هذه الحرب؟ ضحك وقال لي: “حيَلبِس جلابيتو وعِمتو ويمشِي للبرهان وحميدتي، ويقول ليهم: وقفوا الحرب واتفاهموا”.
أي إنه كان سيُبادر لإنقاذ شعبه من ويلات الحرب، بدلاً من أن يكون متفرجاً.