
في شارع ضيق من قلب القاهرة، حيث تهتز الغسيلات المعلقة كأعلام دول لم تُكتشف بعد، ولد صنع الله إبراهيم عام 1937. كان البيت مشبعًا برائحة الورق القديم، مكتبة والده لا تنام، والكتب فيها تصدر همسات ليلية لا يسمعها إلا ذلك الطفل ذو العينين الواسعتين.
كان يصعد إلى الشرفة في المساء، يتأمل القطارات وهي تجر العربات المضيئة كأفعى من نحاس، ويسأل نفسه: أين تذهب هذه الحكايات التي تحملها العيون المتعبة؟
في تلك اللحظات، كان العالم يتشكّل أمامه لا كخرائط جغرافية، بل كأسرار يجب أن تُروى ذات يوم. لم يكن يعرف بعد أن هذه المدينة، بكل فوضاها وعجائزها وموظفيها وباعة المانجو على الأرصفة، ستكون بطلة خفية في كل كتبه.
حين كان في الثانية والعشرين، جرّه انتماؤه إلى اليسار إلى دهاليز السجن. أربعة أعوام وخمسة أشهر وثمانية أيام، لم يكن يعدّها بالرزنامة، بل بعدد الوجوه التي دخلت الزنزانة ثم غابت، وعدد القصص التي التقطها من الهمس والظلال.
هناك، في الزنزانة، أدرك أن العالم لا يُختزل في الكتب وحدها، بل في الحكايات التي تُروى تحت ضوء مصباح شحيح، وفي الرسائل المهربة على أوراق رقيقة، وفي الصمت الثقيل الذي يسبق سقوط حذاء السجّان على أرضية الممر.
عندما خرج، لم يكن مجرد شاب يطلب الحرية، بل كاتب يحمل مفتاحًا سحريًا لبوابة لا نهائية من القصص. صار يكتب كما لو أن الكلمات نفسها تخرج من بين قضبان حديدية، تحمل رائحة العرق والخوف والأمل.
في أعماله، تحوّلت القاهرة إلى كائن حيّ، تتنفس دخان الحافلات، وتبتسم بخجل من شرفات البنات، وتشيخ فجأة حين تتسع فجوة الفقر.
كان يكتبها كما يكتب البحّار خريطة تيارات البحر: الأزقة كمضائق، الميادين كبحيرات، وأصوات المذياع في المقاهي كأغانٍ شعائرية لأمة سحرية.
أبطال صنع الله لم يكونوا أبطالاً في المعنى التقليدي، بل موظفين، سجناء، نساء يرسمن مصائرهن بخيوط صبر طويلة. لكن خلف هذا العادي، كان هناك دوماً شيء خارق: رائحة مجهولة تأتي من جريدة صباحية، ظلّ رجل يظهر في الصور ثم يختفي، رسالة تصل من زمن لم يحدث بعد.
هكذا جمع بين دقة الوثيقة وسحر الحكاية، بين صرامة التاريخ وخفة الحلم، حتى صار آخر السحرة الواقعيين في الأدب العربي.
في أغسطس 2025، غادر صنع الله إبراهيم القاهرة التي أحبها ولم تغادره يومًا. رحل بهدوء، كمن يطوي دفتره الأخير ويضع القلم في جيب معطفه، تاركًا وراءه مكتبة من المدن والشخصيات والأحلام.
لكنه لم يرحل تمامًا. ففي كل زاوية مكتبة، وفي كل بائع صحف، وفي كل موظف يسند رأسه على كفه في ظهيرة حارة، سيظل صوته السردي يهمس: “العالم أكبر من أن يُروى، لكنه أجمل إذا حاولنا”.