
تشهد سوق العقارات في السودان، بصفة عامة، وعلى وجه الخصوص في العاصمة الخرطوم، في مدنها الثلاث بحري وأم درمان والخرطوم، حالاً من الركود غير المسبوق في حركة البيع، في ظل موجة عرض كبيرة للمنازل المشيدة والأراضي السكنية التي يقابلها شبه انعدام في عمليات الشراء. وقبل اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في منتصف أبريل 2023، كانت العقارات في العاصمة استثماراً جاذباً للمغتربين ورجال الأعمال والأجانب، كونها تتيح الحفاظ على رؤوس الأموال، لكن تداعيات الحرب التي أثرت في الاقتصاد السوداني في ظل التراجع المستمر للعملة الوطنية سددت ضربة موجعة للقطاع انعكست على الأسعار.
عوامل عدة دفعت كثيراً من المواطنين إلى الاستغناء عن منازلهم بالبيع سواء في الأحياء الراقية أم الشعبية على رغم التضحيات الكبيرة التي بذلوها من ناحية تشييدها، بسبب استمرار الحرب التي لا يوجد أي مؤشر لإيقافها، فضلاً عما لحق بها من دمار هائل وهدم ما أفقدها قيمتها، إلى جانب التفكير في التوجه صوب الأطراف النائية أو الولايات الآمنة أو الشراء في دول الجوار أو بغرض استثمار رأس المال، إضافة إلى أن معظم أصحاب المنازل لم تعد لديهم القدرة على إعادة البناء والإعمار من جديد.
فما ينتظر سوق العقار في البلاد بخاصة العاصمة الخرطوم في ظل كثافة عروض البيع، وانعدام طلبات الشراء على رغم انخفاض الأسعار إلى أدنى مستوياتها التاريخية؟

قرار صعب
يقول المواطن الطيب عبدالرحمن، الذي يقيم في ضاحية الفتيحاب بمدينة أم درمان، “في تقديري أن أصعب قرار يمكن أن يتخذه الشخص هو بيع منزله، إذ إن هناك علاقة وجدانية تربط بين البيت وأهله، فضلاً عن العوامل المتعلقة من ناحية الاستقرار الأسري وغيرها، مما يجعل التخلي عنه أمراً مستحيلاً”.
وتابع “ما أجبرني على عرض منزلي للبيع هو الواقع الأشد مرارة الذي فرضته الحرب اللعينة، إذ إنه عند عودتنا للمنزل بعد رحلة نزوح طويلة فوجئنا بتخريب لا يمكن وصفه طاول أجزاء واسعة من المنزل، وتسبب في تصدعات وتشققات في الجدران جعلتنا في محنة”.
وأضاف عبدالرحمن “بعد تفكير عميق توصلنا إلى أن الخيار الأمثل هو بيع المنزل، إذ قمنا بجولة على مكاتب العقارات، لكننا لاحظنا أن الأسعار في تراجع، وأن تقييم المنازل ما بعد الحرب أصبح من خلال الاكتفاء بالنظر إليه، والشيء المؤسف هو تعاظم دور السماسرة الطامعين في استغلال أصحاب المنازل”.
وزاد أيضاً أن الهدف من بيع المنزل الاتجاه صوب الأطراف النائية والرغبة في استثمار هامش الربح بإنشاء مشروع صغير في ظل الافتقار لمصادر الدخل، “لكن الحرب أثرت في ترتيب أولويات الحياة، لا سيما أن فكرة البيع كانت تراودنا قبل الحرب، إذ كان سعره آنذاك 500 مليون جنيه سوداني (135 ألف دولار)، والآن بسبب الأوضاع غير الطبيعية بلغ سعره 350 مليون جنيه سوداني (100 ألف دولار)”.
وأوضح أن “كل بيت جرى عرضه للبيع خلال هذه الفترة الحرجة تكمن وراءه قصة حزينة، لا سيما أن العروض تنهال على مكاتب العقارات من دون وجود راغبين في الشراء”.

عقبات متعددة
في المقابل رأى كامل عبدالمنعم أحد أصحاب مكاتب العقارات في أم درمان أن “مكاتب العقارات في العاصمة تشهد إقبالاً كبيراً من المواطنين الراغبين في بيع عقاراتهم سواء كانت منازل جاهزة أو أراض سكنية، لا سيما الذين تضرروا بصورة واسعة من الحرب، إلى جانب الأزمات المالية التي جعلت بعضهم يستغني عن منزله ليستأجر في القرى النائية الواقعة في النواحي الشمالية لمدينة أم درمان بحجة أنها أكثر أمناً وأقل سعراً، أو في الغالب ليشتري بيتاً بسيطاً والاستفادة من بعض المال في أعمال استثمارية”.
وتابع عبدالمنعم “من المؤسف أن كثيرين باتوا في مواجهة عقبات متعددة في حركة البيع والشراء، تمثلت في انخفاض أسعار المنازل، مما جعل الاستثمار في المنازل في ظل الحرب غير آمن، فضلاً عن أنه هدر للمدخرات في حال الإصرار على البيع، بخاصة في مناطق وسط الخرطوم التي ظلت قريبة من المواجهات العسكرية”.
وأشار صاحب مكتب العقارات إلى أن “السوق العقارية في حال انهيار تام في ظل زيادة العرض وتراجع الطلب، فضلاً عن أن الظروف الاقتصادية وحال التضخم وتقلصات العملة الوطنية أثرت في قدرة المواطنين في عمليات البيع إلا في حال الضرورة القصوى، ومع ذلك لا يوجد من يرغب في الشراء”.

تلاشي المميزات
في هذا الوقت، قال المتخصص في المجال الهندسي الشافعي حسن إن “فترة ما قبل الحرب كانت فيها أسعار العقارات تتوقف على عوامل عدة أبرزها الموقع ووقوع العقار في منطقة استراتيجية وحيوية، إلى جانب تصميم وجودة البناء، إذ إن هذه ميزات تسهم في ارتفاع أسعار العقارات التي وصلت إلى آلاف الدولارات، إلا أن هذه الصفات تلاشت بسبب الأضرار التي لحقت بالمنازل مما أدى إلى تضاؤل قيمتها”.
وتابع حسن أن “رغبة المواطنين في البيع في مثل هذا التوقيت وتحقيق أرباح حلم يصعب تحقيقه، لا سيما أن المعارك حولت المناطق الراقية في شرق الخرطوم مثل الرياض والمنشية والطائف إلى مناطق نزاع لوقوعها بالقرب من القيادة العامة للقوات المسلحة، إلى جانب بحري وضاحية جبرة جنوب الخرطوم، فهذه المناطق كانت تنافس دولاً كبرى من ناحية أسعارها، إذ تباع أراضيها بواقع 1200 إلى 1400 دولار للمتر المربع، والآن انخفضت إلى 800 دولار للمتر المربع”.
ولفت إلى أن “المصير نفسه ينطبق على الأحياء الشعبية في أم درمان وشرق النيل، إذ عرض مواطنون منازل جاهزة للبيع بأسعار منخفضة رغبة منهم في مغادرة الخرطوم والاستقرار في مناطق آمنة”.
وأضاف أن عدم الاستقرار الأمني في العاصمة وافتقار معظم المناطق لأبسط مقومات الحياة والخدمات الأساسية من كهرباء ومياه، “تعتبر مؤشرات إلى أن سوق العقارات ستكون أكثر قتامة”.
ونوه المتخصص في الجال الهندسي إلى أن “من المتوقع أن يزيد الطلب على العقارات في الولايات الآمنة، لأن كثيرين من سكان الخرطوم الذين وفدوا إليها قبل الحرب لن يعودوا لها مجدداً مهما استدعى الأمر”.

تحذير وتدخلات
في السياق نفسه أوضح الباحث والمحلل الاقتصادي محمد الناير أن “تراجع الأسعار في الخرطوم أمر طبيعي، إذ إن الحرب أثرت بصورة مباشرة في أسعار المنازل، وتعتبر الأرقام الحالية غير واقعية بسبب ما أصاب الخرطوم من تدمير التحتية من كهرباء ومياه، ففي ظل هذه العوامل لا يمكن أن يتم البيع أو الشراء في الوقت الراهن”.
وقال “لا يمكن أن نجزم بأن تعود أسعار المنازل والأراضي السكنية لسابق عهدها، لا سيما أن الأرقام كانت خيالية، بخاصة مناطق وسط العاصمة، وهي مناطق استراتيجية مع احتمال أن تصبح أسعارها معقولة حين استقرار الأوضاع”.
وأضاف الناير “ننصح المواطنين بعدم التصرف في ممتلكاتهم ووقف حركة البيع والشراء، إذ إنها باتت من دون قيمتها، فضلاً عن أن هناك إجراءات من الدولة وتدخلات بوقف نقل الممتلكات والأصول بصفة عامة، في ما يعد هذا القرار صائباً في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، ومن المتوقع، حين توقف الحرب، أن تتضح الرؤية وتعود الخرطوم كما كانت وترجع الأسعار لحالتها القديمة”.
وختم الباحث والمحلل الاقتصادي “من الممكن أن تكون هناك مخططات خارجية تستهدف شراء منازل المواطنين وتهجيرهم، لذلك يجب توخي الحذر لا سيما أن مستقبل العقارات سيكون واعداً”.
شلل وصعوبات
على صعيد متصل قال المتخصص الاقتصادي إبراهيم أونور “منذ اندلاع الصراع المسلح في الخرطوم ضربت القطاع العقاري حالاً من الشلل في ما يتعلق بحركة البيع والشراء بسبب شح السيولة وتسخير المواطنين أموالهم في ضروريات الحياة، فضلاً عن أن تدهور الأوضاع الأمنية جعل الوصول إلى العقار أو قطعة الأرض المراد بيعها أمراً صعباً، فضلاً عن توقف عمل مكاتب التوثيقات القانونية والمحامين التي تسهم في إبرام عقود البيع والشراء”.
وتابع أونور “من المعلوم أن هناك مناطق في الخرطوم كانت مسرحاً للعمليات العسكرية عرضت منازل المواطنين للخراب، بالتالي ضاعت قيمتها السوقية، لذا من المتوقع أن يكون قطاع الاستثمار العقاري ما لم يجر التوصل لحل ينهي أزمة السودان مهدداً بالانهيار”.