مقالات

الضنك في السودان: وباء حاضر ومستقبل غامض

محمد قرشي عباس

حين ننظر إلى المشهد الصحي في السودان اليوم، نجد أنفسنا أمام ضباب كثيف. الحرب عطّلت أجهزة الدولة، وسجلات المرضى تكاد تكون صامتة، والأرقام الرسمية التي تُعلن متقطعة أشبه بخيوط باهتة لا تعكس عمق المأساة. لكن في المقابل، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بأصوات الناس: نداءات استغاثة، صور لأسِرّة ممتلئة، أخبار عن موت شباب في عمر الزهور. هذه الشهادات المتناثرة، رغم طابعها غير الرسمي، تحمل في طياتها بوصلة يمكن أن تهدينا إلى الحقيقة إذا ما ربطناها بالسياق التاريخي وبتحليل عقلاني لما نعرفه عن ديناميات المرض.

السياق التاريخي: من موجات مستقرة إلى انفجار غير مسبوق

قبل الحرب، عرف السودان موجات متقطعة من الضنك، لكنها ظلت محدودة نسبياً. ففي عام 2019 سُجِّلت نحو أربعة آلاف إصابة فقط، معظمها في كسلا، بنسبة وفيات لم تتجاوز 0.3%. وفي عام 2022 امتدت الموجة إلى عدة ولايات أخرى، لكن الأرقام لم تتخطَّ سبعة آلاف حالة تقريباً خلال عدة أشهر. كانت هذه أعداداً تُظهر أن المرض موجود لكنه لم يخرج عن السيطرة.

اليوم، في ظل الخراب المؤسسي، نجد تصريحات متفرقة: وزير الصحة يصرح بأن الحالات الحقيقية “عشرات الآلاف”، والسلطات في الخرطوم وحدها أعلنت عن أكثر من أربعة عشر ألف إصابة منذ بداية الوباء. إذا قارنّا ذلك بالماضي، ندرك أننا أمام وباء بمستوى غير مسبوق، ليس مجرد ارتفاع موسمي، بل طفرة هائلة مدفوعة بتراكم عوامل جديدة: النزوح، تكدس النفايات، انقطاع المياه مما يضطر الأسر لتخزينها، ثم الأمطار الغزيرة التي حولت الأحياء إلى بؤر لتكاثر البعوض.

كيف نستطيع التقدير رغم غياب الإحصاء؟

العلوم الوبائية تقدّم لنا أداة مفيدة تُسمى “معامل التوسّع” أو Expansion Factor، وهي ببساطة نسبة تقديرية تُضاعِف الأرقام المبلَّغ عنها لتعكس الواقع. في كثير من الدول، لا يُسجَّل إلا واحد من كل سبعة أو ثمانية مصابين بالضنك. فإذا أخذنا الرقم الرسمي الأسبوعي الأخير في السودان – نحو ألفين حالة – وضربناه في معامل واقعي (بين 5 و10). فهذا يعادل ما بين عشرة آلاف وثلاثين ألف إصابة جديدة كل أسبوع. وعند حساب الأسابيع منذ يوليو الماضي نجد أن مجموع الإصابات ربما تجاوز مئات الآلاف. هذا التقدير ليس رفاهية رياضية، بل وسيلة عقلانية لتعويض قصور الإحصاء الرسمي، ووسيلة لفهم الواقع بصورة أقرب إلى الحقيقة.

الضنك: وباء المستقبل في السودان

حين نتأمل ديناميات الناقل – بعوضة Aedes aegypti – ندرك أن الضنك ليس مرضاً طارئاً سينتهي كما انتهت جائحة الكورونا، بل وباء مستوطن يرسّخ وجوده بمرور السنوات، تماماً كما فعلت الملاريا من قبل. فالمناخ السوداني، وتراكم المياه الراكدة، والتمدّد الحضري غير المخطط، كلها عوامل تجعل من البلاد بيئة مثالية لاستمرار دورة الناقل عاماً بعد عام. لذلك فإن الحديث عن “نهاية” الضنك ليس واقعياً، بل الأرجح أننا سندخل مرحلة جديدة يصبح فيها الضنك جزءاً من المشهد الصحي المزمن، مرضاً نتعامل معه موسمياً ولسنوات قادمة على أقل تقدير.

وليس هذا التقدير من باب التشاؤم، بل هو ما تؤكده تجارب دول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية: فهناك، ورغم استقرار الأنظمة الصحية، لم يُقضَ على الضنك، بل ظل يتكرر في موجات متعاقبة تتفاوت شدتها بحسب الأمطار والتحركات السكانية. في السودان، حيث الحرب والنزوح والدمار العمراني، تصبح الظروف أعقد بكثير.

حركة النزوح العكسي 

 آلاف الأسر التي تعود فجأة إلى قراها ومدنها – تنقل معها العدوى إلى مناطق جديدة، فتفاجئنا تحديات كنا نتوقعها بشدة لو كان هناك تخطيط سليم. بل إن منظمة الصحة العالمية نفسها كانت قد حذّرت بدقة في تقريرها الصادر في يوليو 2024 (Public Health Situation Analysis – Sudan) من أن: “تفشيات حمى الضنك سُجِّلت في تسع ولايات منذ يوليو 2024، وأن خطر التوسع والتضخيم يظل مرتفعاً جداً نظراً لتلاقي الفيضانات، والنزوح الجماعي، وانهيار أنظمة مكافحة الناقل.” لقد كان ذلك تحذيراً صريحاً بأننا نتجه إلى انفجار وبائي إذا لم تُتخذ تدابير حاسمة.

واليوم نرى تحقق هذا السيناريو حرفياً: الموجة الحالية بدأت مع أمطار يوليو وأغسطس، وبلغت ذروتها في سبتمبر وأكتوبر، وهي مرشحة للاستمرار بقوة حتى نوفمبر. لكن الخطر لا ينتهي بانحسار القمة؛ إذ أن “قمم ما بعد الموجة” تظل ممكنة، خصوصاً مع النزوح العكسي الواسع المستمر الذي يعيد إدخال الفيروس إلى مناطق جديدة. ما يبدو “مفاجئاً” للناس هو في الحقيقة نتيجة متوقعة بشدة، لو كان هناك نظام يقرأ ديناميات الناقل والوباء كما ينبغي.

كيف نستفيد من البيانات الشعبية؟

من هنا تأتي أهمية أن ندرك جميعاً أن المواجهة لا بد أن تكون تكاملية: الدولة بما تبقى من أدواتها، والمجتمع بما يستطيع أن يبتكره من مبادرات. فالمجهود الشعبي ليس بديلاً عن الرسمي، لكنه الجسر الذي يسد الفجوات حين تنهار المؤسسات.

إذا تحركت لجان الأحياء أو الناشطون وجمعوا بيانات بسيطة – عدد حالات الحمى بعدة مراكز صحية بالمنطقة، تكرار طلب المحاليل الوريدية في الصيدليات، طلبات الصفائح الدموية بالمستشفيات، حتى عدد الجنائز غير المتوقعة بالمقابر – فإن هذه الأرقام، وإن بدت عفوية، يمكن أن تُحلَّل بطريقة منظمة لتعطينا صورة أكثر وضوحاً عن منحنى الوباء. 

وباستخدام معادلات بسيطة (كأن نضرب العدد المبلّغ عنه في “معامل مضاعفة” يعكس الحجم الحقيقي غير المبلّغ)، ونماذج إحصاء بيساني بمعونة الذكاء الاصطناعي، نستطيع تحويل هذه البيانات الميدانية الخام إلى تقديرات أقرب للواقع. وإذا تكررت عملية الجمع أسبوعاً بعد أسبوع، يمكن رسم منحنى يُظهر متى يبدأ المرض في التصاعد، ومتى يصل إلى الذروة، ومتى يبدأ في الانحسار.

هذه المعرفة ليست ترفاً، بل هي ما يمكّن المجتمع من الاستجابة: توجيه حملات التوعية، توزيع الناموسيات، تنظيم حملات النظافة، وتخصيص الموارد المحدودة حيث الحاجة أشد. بهذه الطريقة يتحول الخوف المشتت إلى عقل جمعي منظم، ويصبح بوسع الناس أن يشاركوا في صياغة استجابتهم بدل أن ينتظروا بيانات رسمية تأتي متأخرة أو ناقصة. وهكذا يُبنى الوعي: من قراءة الماضي، ومن استبصار المستقبل، ومن فعل حاضر واعٍ يدمج بين العلم والإرادة الشعبية.

خاتمة .. تكامل المجهود الشعبي والحكومي

ما يجري الآن ليس مجرد وباء، بل اختبار لعقل المجتمع. تقرير منظمة الصحة العالمية العام الماضي لم يكن نبوءة غيبية، بل قراءة واقعية لديناميات يمكن لأي عاقل أن يتوقعها. غياب التخطيط هو الذي جعلنا نتفاجأ بما كان متوقعاً.

 الحل ليس أن ننتظر أرقاماً رسمية ناقصة، بل أن نخلق شبكات ترصّد شعبية تكمل ما تعجز عنه الدولة، مع دعوة الحكومة – مهما كانت ظروفها – إلى دعم هذه المبادرات، وتوفير ما تيسر من إمكانات للتكامل.

إن الضنك باقٍ معنا، والسبيل الوحيد لتقليل عبئه هو أن نقرأ الواقع بوعي، نستبق التحديات، ونحوّل الخوف المبعثر إلى عمل منظم. بهذه الروح، يمكن للسودان أن يواجه وباءً مستوطناً لا كضيف عابر، بل كاختبار لقدرتنا على البقاء والعقلانية وسط العاصفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى