
حجة الغياب في القانون تعني تقديم الدليل الذي يثبت غياب وعدم تواجد متهم ما في مسرح الجريمة أثناء حدوثها.
أشهر حجة غياب تلك التي ذكرها محمد حسنين هيكل في خريف الغضب وهي أن السادات أخذ زوجته إلى السينما بينما كان رفاقه الضباط الأحرار يقومون بالانقلاب ضد الملك، واحتفظ بالتذكرة لإبرازها لإثبات أنه لم يكن مشاركا في الانقلاب.
في دبلوماسية الجمعية العامة للأمم المتحدة هناك أربعة طرق للإعراب عن موقف تجاه قرار ما وهي: التأييد والرفض أو الامتناع (التحفظ) أو الغياب.
والامتناع قد تضطر إليه الدولة كنوع من التحفظ على أحد بنود القرار أو الطريق التي سينفذ بها أو شيء من ذلك القبيل. ولا يحسب الامتناع كتصويت داعم أو رافض، ولكنه يحسب ضمن نصاب الحضور باعتبار الدولة موجودة.
أم الغياب فهو امتناع عن كل أنواع التصويت بتجاهل الأمر برمته، وحدوث الغياب لا يكون صدفه، خاصة عند التصويت في القرارات الكبيرة، فالسفير في حال غيابه يمكن لنائب رئيس البعثة أن ينوب عنه أو ينوب أحد أعضاء البعثة كمستشار أو سكرتير أول أو غيره، ويخول هذا الدبلوماسي حق التصويت.
والغياب الكلي للبعثة أو “تسجيل لموقف” يعنى فيه أن الدولة لا تريد المشاركة في التصويت. أو أنها تتمنع عن التصويت تجنباً لإحراج يترتب على إدلائها بصوتها. ويحسب الغياب في هذه الحالة “كحياد سلبي”. ولكن رغم سلبيته فهو يفيد جهة محددة خاصة عند التصويت في قضايا مهمة وحساسة.
هو أميل للرفض من الامتناع. وغياب بعثة ارتريا عن التصويت لصالح قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية يؤخذ من الناحية الدبلوماسية والسياسية كاعتراض لأن قرارات الجمعية العامة ذات الأهمية تحتاج إلى “حشد دبلوماسي” تقوم به بعثات الدول المهتمة وفي الحشد الحالي للاعتراف بالدولة الفلسطينية فإن البعثات الداعمة له هي بعثات كل فرنسا والسعودية كدول صاحبة مبادرة، إضافة لبعثة فلسطين والدول العربية وبعثة جامعة الدول العربية باعتبارها صاحبة الشأن كذلك.
عدم الحضور يعني هنا “الغياب” عن الحشد الدبلوماسي الداعم للمبادرة ودعمه. وهو موقف يماثل الحصول على موافقة أو تأييد أحد أعضاء مجلس إدارة شركة للتصويت لعضو، ولكن العضو المطلوب منه التصويت يغيب متعمداً حتى لا يصوت ويكون تصويته محسوبا عليه من قبل زميله طالب التصويت.
ولارتريا في الأمم تصويت كبير مثير للتساؤل والدهشة هو التصويت الرافض لعقد جلسة خاصة لإدانة إسرائيل بسبب اغتيال الشيخ أحمد يسن في مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بتاريخ (24 مارس 2003). وكان سلاح الجو الإسرائيلي قد شن غارة عند الفجر استهدف فيها الشيخ أحمد يسن عند خروجه من صلاة الفجر بقصف جوي في الثاني والعشرين من نفس الشهر، وزاد من اعتراض الدول على الاغتيال كون الرجل مسناً ومدنياً ويعاني من شلل. في ذلك التصويت قام سفير ارتريا لدى الأمم المتحدة حينها الدكتور أماري تخلي بالتصويت ضد عقد جلسة طارئة لمناقشة القضية. ولكن وضمن اجتماع المفوضية في اليوم التالي تدارك السفير موقفة مصوتاً لصالح القرار مع إشارته في مخاطبة مفوضية الأمم لحقوق الانسان بأن بلاده صوتت ضد الجلسة الطارئة لأن ذلك يمكن أن يندرج ضمن الأجندة العادية لاجتماع المفوضية. ورغم تصويت ارتريا لصالح قرار الإدانة لاحقاً إلاّ أن التصويت الأولى الرافض للإدانة هو الذي بقي في الذاكرة مثيراً عاصفة من الامتعاض دفعت الخارجية الارترية لتغيير تصويتها في اليوم التالي.
وسجل لاحقاً لارتريا تأييدها للإدانة، ولكن بعد الصدمة التي أثارها موقفها الأولى الرافض في البداية لم يتم تذكر موقفها المصحح للخطوة الأولى.
وكانت الولايات المتحدة قد استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الجزائري الليبي المشترك لإدانة الاغتيال. مما دفع الدول المطالبة بالإدانة لاستصدار القرار من مفوضية حقوق الإنسان، وقال سفير الولايات حينها جون نيغرو بونتي رغم الفيتو بأن بلاده تبدى انزعاجها من الحادث الذي سيؤدي إلى تصعيد التوتر في غزة.
حينها كنت أعمل نائباُ للسفير في بعثة ارتريا في باكستان وبالطبع انهالت عليّ الأسئلة من الزملاء الدبلوماسيين في بعثات أيدت القرار بخصوص هذا التصويت الغريب. لم يكن لدى إجابة باعتبار عدم المامي بتفاصيل التصويت والأوامر الدبلوماسية الواردة من الخارجية بخصوصه. ولكن تواصلت مع أحد الزملاء وهو سفير قريب من دوائر القرار فقال لي أن السفير أماري تخلي (وسبق للدكتور أماري تخلي ترؤس الدائرة الافريقية بوزارة الخارجية الاثيوبية في الماضي) تصرف بشكل منفرد بناء على فهم أن حكومته سوف تعترض على قرار الإدانة، وأضاف لي السفير أن تصرفه غير سليم، ولكن الحكومة الارترية لم تشر إلى تلك المسألة توضيحا أو تصحيحا حسب علمي.
ربما بسبب من تلك التجربة ولأسباب يعرفها الحاكم في اسمرا تكون أسباب الغياب غير معلومة، ولكنها في تقديري، ستكون مدهشة خاصة للسعودية والتي تجمعها علاقات جيدة مع ارتريا حالياً وهي التي بذلت جهداً دبلوماسيا وسياسياً خارقاً لتحقيق الزخم الكبير الداعم للقرار. ولكن يبدو أن أفورقي وازن بين رضا اسرائيل واشنطن عن خطوته ورضا الدول العربية مجتمعة (هو لا يتمتع بعلاقة ودودة مع فرنسا) خاصة في ظل الدعوات إلى الحرب في أديس ابابا وهو يعرف سلفاً موقف ترامب من مشكلة سد النهضة ويريد أن يكسبه إلى جانبه في حال اشتداد الأزمة وبذلك يكون عدم التصويت بالغياب هو إرضاء لصاحب المكتب البيضاوي. أما من الناحية المبدئية فافورقي دائم المجاهرة برفضه لحل الدولتين ورفضه المتكرر لمخرجات أوسلو والتي حسب رأيه أدت إلى تكوين إدارة (ممحدار) وليس سلطة فلسطينية كما قال في إحدى مقابلاته. والمتابع لقرارته ورؤيته للحل في الشرق الأوسط يمكنه بكل يسر تفهم اتجاه والذي رسخه الموقف الأخير بالغياب. ويشير البعض في محاولة لإنكار عدم تصويت ارتريا ضد القرار بالقول إن ارتريا لم تصوت ضد القرار( فعلاً هي لم تصوّت ضد القرار) ولكن الغياب في هذه الحالة يحسب كرفض. وهو رفض يتوافق مع المواقف التي عبر عنها أفورقي بوضوح أكثر من مرة (يمكن الرجوع لمقابلاته مع التلفزيون الارتري).
أما العلاقة بين الثورة الارترية والثورة الفلسطينية فذلك موضوع آخر تناولناه في مقال سابق.
(*) كاتب صحفي ودبلوماسي ارينري