نوبل السلام، كمقدمة لحربٍ قذرة قادمة على فنزويلا: حين تتحوّل الجوائز إلى أدواتٍ جيوسياسية
تقرير - إدريس آيات

تجاوزت رغبة دونالد ترامب في نيل جائزة نوبل للسلام مجرّد نزوة نرجسية أو بحثًا عن مجدٍ رمزيٍّ شخصي، إلى امتدادًا لمنطق الهيمنة الأمريكية الذي يسعى إلى شرعنة القوة عبر أدوات “ناعمة”. فقد حاول ترامب بلوغها بكل الوسائل الممكنة: بالترغيب حينًا، وبالاستعطاف حينًا آخر، وبالضغط الدبلوماسي حين لم تُجده تلك الوسائل نفعًا، حتى بالتهديد المُبطّن. لكن المفارقة الكبرى أنّ الجائزة التي أفلتت من بين يديه لم تخرج من مداره الامبريالي، إذ آلت هذا العام إلى الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو — وجه آخر من وجوه المشروع الأمريكي في أميركا الجنوبية.تبدو الجائزة في ظاهرها احتفاءً بامرأة معارضة لنظام نيكولاس مادورو، والتي أكبر إنجازاتها أنها ترشّحت ضد مادورو في انتخابات 2024؛ لكنّ الجائزة وماريا في حقيقتهما امتدادٌ لواشنطن بأدواتٍ ليبرالية جديدة.

فماريا كورينا ليست سوى النسخة الفنزويلية من “الثورات الملوّنة” التي تُنتجها مراكز القرار في واشنطن ولندن كلما احتاجت إلى قلب نظامٍ لا يخضع لمنطق السوق الإمبراطوري. حيث تُعيد إنتاج منظومة التدخل الناعم: يتمّ تلميع المعارض المحلي بوصفه “ضمير الشعب”، ثم يُقدَّم إلى الرأي العام الغربي كرمز للحرية والديمقراطية، في حين يجري تهيئة المسرح السياسي والعسكري لسيناريوهات أكثر قسوة.
فنزويلا، التي تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم، تُمثل اليوم نقطة توتر حقيقية في الصراع الدولي على الطاقة. والولايات المتحدة التي تعاني تراجع نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا، تحاول استعادة زمام المبادرة في “حديقتها الخلفية” بأميركا اللاتينية. ومن هنا، يمكن قراءة منح الجائزة لماريا ماتشادو كخطوةٍ رمزية لتأهيل “البديلة” التي ستُقدَّم لاحقًا بوصفها المخلّصة من نظام مادورو، تمامًا كما جرى في أوكرانيا وجورجيا وبلدانٍ أخرى تمّ إسقاط أنظمتها عبر المسارات ذاتها: تضخيم معارضةٍ ليبرالية، تعبئة إعلامية، ثم تدخل سياسي واقتصادي وربما عسكري. وقد صرّحت ماريا في غير مرّة أنها إن ترأست فنزويلا يومًا، ستنقل سفارة بلدها من تل أبيب إلى القدس.

لجميع ما سبق، أدركت لجنة نوبل أنّ منح الجائزة لترامب كان سيُحدث صدمة أخلاقية لا يمكن تبريرها، نظرًا لدوره في دعم العدوان الإسرائيلي على غزة، وتغطيته للقصف الأمريكي في اليمن وسوريا ولبنان وإيران. لكنّها في الوقت نفسه لم ترغب في إغضاب واشنطن، فاختارت منحها لشخصٍ تدعمه المؤسسات الأمريكية نفسها — في توازنٍ بين تبرئة الوجه الغربي وإرضاء “العم سام”.
هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها جائزة نوبل كأداة ضغطٍ سياسي. فالتاريخ يزخر بأمثلة لجوائزٍ منحت لأشخاصٍ كانوا في صلب الخطط الغربية لإعادة هندسة مناطق بأكملها. لكنّ الجديد في حالة ماريا كورينا أنّها تمثل حلقة في مشروعٍ أكبر، لإعادة تطبيع الحضور الأمريكي في قارةٍ تشهد اليوم انزياحًا واضحًا نحو الشرق: الصين وروسيا تزرعان نفوذهما في البنية الاقتصادية والسياسية لأميركا الجنوبية، وواشنطن تخشى أن تتحول كاراكاس إلى منصة جديدة لتحالفات مضادة لها. ويتجليّ لنا مرةً أخرى كيف تتحول الجائزة إلى تمهيدٍ نفسي لحربٍ سياسية وربما عسكرية لاحقة.

كلّ المؤشرات الصادرة من الدوائر الاستراتيجية الأمريكية — من تصريحات البنتاغون إلى مقالات Foreign Affairs — تؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لتقبّل نظامٍ بوليفاريٍّ يناهض مصالحها في محيطها الحيوي. وكما مهّدت واشنطن سابقًا لغزو العراق بتهمة “تحرير الشعب”، تمهّد اليوم لعودةٍ مقنّعة إلى فنزويلا تحت شعار “استعادة الديمقراطية”.
إنّ ما يُقدَّم اليوم على أنه تكريمٌ إنساني هو في جوهره هندسة سياسية بوسائل رمزية. فالسلام الذي تتحدث عنه نوبل ليس سوى ستارٍ لأجندةٍ عسكرية واقتصادية واضحة، تُعيد إنتاج خطاب “المخلّص الليبرالي” في مواجهة “الطاغية المحلي”. ومع كل دورة جديدة، تتحوّل الجائزة إلى منصةٍ لتلميع وجوهٍ مرسومة مسبقًا في مكاتب الاستخبارات الغربية.

إنّ ما شاهدناه اليوم ليس إلا فصلاً من فصول الصراع بين القوى الصاعدة والمنظومة الغربية التي تفقد سيطرتها التاريخية على العالم. فحين تعجز واشنطن عن شنّ حربٍ مباشرة، تلجأ إلى أدوات “الرمزية المؤدلجة”: الجوائز، المنظمات، الإعلام، والمؤسسات الدولية التي يُفترض أن تكون محايدة.
وبينما يحتفي الغرب والعالم التابع له بـ”المرأة الحديدية” الجديدة في كاراكاس، تُخطّط الدوائر نفسها لإعادة فرض السيطرة على موارد فنزويلا الهائلة، وتفكيك إرث شافيز، وربط اقتصاد البلاد من جديد بالمصالح الأمريكية. باختصار، جائزة نوبل للسلام تحوّلت إلى قفازٍ مخمليٍّ يخفي قبضةً حديدية، وإلى طلقةٍ أولى في معركةٍ باردةٍ جديدة على مستقبل أميركا اللاتينية.