
منذ اليوم الأول للحرب وجد الإعلاميون والصحافيون السودانيون أنفسهم تحت طائلة الاستهداف المباشر من طرفي الصراع في كل من مناطق سيطرة الجيش و”الدعم السريع” معاً، مما تسبب في انتهاكات كبيرة وتشريد عشرات الصحافيين وفقدانهم فرص عملهم، وضاعف استمرار الحرب طوال عامين كاملين من المعاناة غير المسبوقة للصحافيين كما واجهوا انتهاكات كبيرة هددت أرواحهم بصورة مباشرة.
ثمن باهظ
ومنذ بداية اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منتصف أبريل (نيسان) 2023 دفع الصحافيون السودانيون ثمن المهنة من دمهم وحياتهم وأمنهم واستقرارهم ومعيشتهم. وظلت التهديدات تلاحق العاملين في الحقل الإعلامي بصورة منتظمة، لتتوارى حرية الصحافة خلف غبار المعارك نتيجة إجراءات وضغوط من قبل طرفي الصراع.
الحرب الدائرة التي تدخل عامها الثالث فرضت أعباءً وواقعاً مريراً خيم على الصحافيين السودانيين، من تشرد ونزوح ولجوء وقتل وفقدان للوظائف والدخل، فضلاً عن الضغوط الكبيرة التي يمارسها طرفا الصراع على هؤلاء، تشمل التهديدات بالقتل والتصفية الجسدية ومصادرة المعدات وإغلاق المؤسسات الإعلامية.
دفعت ظروف الحرب والمعاناة المتفاقمة من مصاعب وتعقيدات وعراقيل بأكثر من 500 صحافي للجوء إلى دول الجوار، وتوجه معظمهم نحو مصر وإثيوبيا وأوغندا وكينيا، في حين نزح ما يقارب 700 آخرين إلى الولايات الآمنة في داخل البلاد معظمهم في بورتسودان العاصمة الإدارية الموقتة، إلى جانب ولايتي نهر النيل والشمالية والقضارف وكسلا.
مهن هامشية
اضطر عديد من الصحافيين النازحين إلى امتهان مهن هامشية تجارية صغيرة لكسب قوت يومهم، بينما توجه آخرون نحو إنشاء مواقع إلكترونية صغيرة بإمكانات محدودة على نمط منصة الأحادية الإدارة من حيث النشر والتحرير.
وبحسب تقرير رصد الانتهاكات والتجاوزات في حق الصحافيين والحريات الصحافية 2024، فقد تصاعدت وتيرة العنف نتيجة استمرار الصراع، إذ شهد العام الماضي (2024) زيادة هائلة في عدد الضحايا، فخلاله لقي 16 صحافياً حتفهم بزيادة 300 في المئة مقارنة بالعام الذي سبقه (2023)، وما يثير الصدمة والغضب هو الاستهداف الممنهج للصحافيين.
كشف التقرير عن ارتفاع عدد الذين تعرضوا لعمليات اغتيال إلى 20 صحافياً منذ اندلاع الحرب منتصف أبريل (نيسان) 2023، وحتى نهاية العام الماضي 2024.
وأشار التقرير إلى أن الجرائم ضد الصحافيين لا تقتصر على القتل، بل تتعداها إلى التعتيم والتشويه من خلال حملات ممنهجة وحجب المعلومات حول ملابسات حوادث القتل.
التقرير يؤكد أنه مع تفشي الفوضى وغياب القانون يمارس طرفا الصراع أبشع أنواع الانتهاكات والجرائم في حق الصحافيين من دون أن يواجهوا أية عقوبات، وعادةً ما ينفي طرفا الصراع تلك الاتهامات.
تعذيب وتنكيل
ووفق تقرير النقابة، “يواجه الصحافيون أبشع أنواع التعذيب والتنكيل بغرض ترويعهم وإسكات أصواتهم، بحيث لم تعد عمليات الاغتيال تقتصر على العاملين في المجال الإعلامي وحدهم، بل امتدت لتشمل أي شخص يشتبه في تعاونه معهم، وهذه الجرائم ترتكب بدافع الانتقام والرغبة في السيطرة على المعلومات، وتؤكد مدى الاستهانة بحق الحياة والكرامة الإنسانية”.
ولفت التقرير إلى أنه ومنذ اندلاع الحرب توقفت أكثر من 90 في المئة من المؤسسات الإعلامية وغرقت في صمت قاتل، بينما بقي الشعب السوداني في ظلام معلوماتي دامس.
و”من بين 22 إذاعة محلية لم يبقَ سوى 3 محطات تعمل بصورة متقطعة، وتبث خطاباً متحيزاً يخدم مصالح طرف دون الآخر”، وفق نقابة الصحافيين السودانية.
بحسب التقرير بلغ مجمل الانتهاكات التي تعرض لها الصحافيون ووسائل الإعلام منذ اندلاع الصراع 509 حالات انتهاك موثقة ومصنفة بحسب طبيعة كل انتهاك، “تقف كل منها شاهداً على حجم الجريمة التي ترتكب في حق الحقيقة وحرية التعبير”.
قتل واعتداءات
بخلاف حالات القتل رصد التقرير ارتفاعاً في العدد الكلي لحالات الاعتداء الجسدي والإصابة إلى 11 حالة من بينهم 4 صحافيات، بينما وصل إجمال حالات الإخفاء والاعتقال والاحتجاز إلى 69 حالة من بينهم 13 صحافية، فضلاً عن ارتفاع العدد الكلي لحالات النهب المسلح إلى 32 من بينهم 3 صحافيات، معظمها تحدث وقائعها في منازلهم.
دعم انتقائي
على الصعيد نفسه يرى الصحافي السوداني عوض عدلان الذي لجأ إلى أوغندا أن الصحافيين مثلهم مثل جميع فئات المجتمع تأثروا بشدة بتداعيات الحرب الدائرة منذ عامين التي كانت أثرها مضاعفة على مجتمع الإعلاميين بصفة عامة، إذ ظلوا يتعرضون للضغوط وعمليات الاستقطاب من قبل طرفي الحرب لاستخدامهم في معاركهم الإعلامية وحروبهم الدعائية خدمة لأغراض الحرب.
أضاف عدلان أن توقف المؤسسات الإعلامية أثر بشدة في أوضاع الصحافيين المادية وأصبح عدد كبير منهم اليوم بلا عمل عدا الذين يعملون في خدمة أهداف طرفي النزاع بمقابل مادي، متهماً “حكومة الأمر الواقع” برصدها “مبالغ طائلة لدعم الصحافيين الموالين لخط عسكري داعم للحرب وتغذية التوسع الهائل في المنصات الإلكترونية ووسائط الشبكة العنكبوتية بعد توقف كافة الصحف السودانية الورقية عن الصدور”.
يتهم عدلان طرفي النزاع بالجنوح نحو تكميم أفواه الصحافيين المعارضين لتوجهاتهما بوسائل عدة مثل الاعتقالات والمحاكمات والإرهاب، مما خلف أجواءً خطرة دفعت بعديد منهم إلى مغادرة البلاد فيما تحول آخرون إلى أعمال أخرى بعيدة من الإعلام. و”يمكن القول إن الإعلام الحر النزيه لا وجود له اليوم ويحتاج إلى أعوام لإعادة موضوعيته”، بحسب عدلان.
التحكم بالمعلومات
وبحسب سكرتيرة الحريات في نقابة الصحافيين السودانيين إيمان فضل السيد، “فقد أحكم إعلام طرفي الصراع سيطرته وتحكمه بتدفق المعلومات ورفضه وجود أي أطراف محايدة، انطلاقاً من رغبة كل منهما في عكس وجهات النظر الخاصة بكل طرف لكي تصل إلى الرأي العام، وفي الوقت نفسه ضمان عدم تشكيل رأي عام ضده”. ونوهت فضل السيد إلى “توقف 1000 صحافي وصحافية عن العمل، بينما هاجر المئات إلى دول الجوار، وخسر آخرون ممتلكاتهم والحقوق الأساسية المضمونة لهم في المواثيق الدولية من الحق في السكن والعمل والحياة الكريمة”. واعتبرت أن “أوضاع الحرب أسهمت في تقييد حركة وتنقل الصحافيين واتصالاتهم بالمصادر للحصول على المعلومات والأخبار، بخاصة مع استهداف طرفي الصراع للصحافيين وتقييد حركتهم ونشاطهم. ومع تزايد حدة الاستقطاب التي فرضها واقع الحرب، تراجع التزامهم بالقيم المهنية وقواعد الحياد والموضوعية والنزاهة إلى حد بعيد”.
إزاء التهديدات والمضايقات التي ظل يتعرض لها الصحافيون ومن أجل حماية عضويتها أطلقت نقابة الصحافيين السودانيين هاشتاغ: الصحافة ليست جريمة، وبعث رسالة إلى المؤسسات الإقليمية والدولية المعنية بحماية الصحافيين وكل العالم الحر، بما ظل يتعرض له العاملون في هذا المجال من أخطار الحرب إلى التهديد والتحريض، مؤكدة قدرتها على حماية عضويتها من أي مهددات والتصدي بحزم لكل المتربصين بها.
وقف الحرب
بدوره استبعد رئيس نقابة الصحافيين السودانيين عبدالمنعم أبو دريس أي تحسن في هذا الشأن ما دامت الحرب مستمرة، وقال “لا نتوقع تحسناً كبيراً في الحريات بمثل هذه الظروف، بخاصة أن هناك مشكلة وصول إلى المعلومات، مما خلق مناخاً للأخبار الزائفة”.
وعبر نقيب الصحافيين عن أسفه لعدم انعكاس انتشار الوسائط الإلكترونية على أوضاع هذه الفئة، وذلك لسببين أولهما أن هذه المواقع تعتمد على شخص أو شخصين، وأحياناً غير محترفين، إلى جانب عدم وجود عقود واضحة عند توظيف صحافيين، مشدداً على أن من مصلحة الصحافة أن تنتهي الحرب وتعود الحياة الطبيعية.
وفي معرض نعيه للضحايا الإعلاميين الذين قضوا أثناء تغطيتهم تحرير القصر الجمهوري أشاد اتحاد الإعلاميين الأفارقة بمشاركة الإعلاميين السودانيين في “تغطية أحداث الملاحم البطولية التي قدمتها القوات المسلحة السودانية في معركة الكرامة”.
وصف بيان الاتحاد “مشاركة الإعلاميين في تغطية الأحداث لحظة بلحظة مع إخوانهم من الجنود بأنه يأتي انطلاقاً من إيمانهم بأن ما يقومون به يستحق أن ينقل لكل العالم ويوثق كملاحم سيخلدها التاريخ ويحفظها للأجيال القادمة”.
وبارك اتحاد الإعلاميين الأفارقة للشعب السوداني كله هذا “النصر الذي توجت به القوات المسلحة اليوم (الجمعة) نجاحاتها بمحاور الخرطوم، وسحقها الإرهاب بمناطق عدة”.
من جانبها نعت نقابة الصحافيين وكل من وزير الثقافة والإعلام أول فريق إعلامي يصل إلى تغطية تحرير القصر الجمهوري، ثلاثة منهم طاقم تلفزيون السودان وضابط بالإعلام العسكري.
وكانت نقابة الصحافيين السودانيين قد أعربت عن بالغ قلقها واستنكارها لقرار السلطات السودانية بحظر نشاط قناة “الشرق” للأخبار في السودان من دون تقديم أي تفسير رسمي، قبل أن تتراجع السلطات لاحقاً بعد فترة قصيرة وتسمح لها بمعاودة نشاطها.
وحذرت بيان للنقابة من أنها تتعرض لحملة تنطلق من الغرف الإعلامية للنظام السابق (نظام البشير)، وغرف تأجيج الحرب في البلاد، إذ إن “الصحافة ليست جريمة”.