
في سابقة فريدة، ربما هي الأولى من نوعها على مستوى العالم، نظم وزير إعلام حكومة بورتسودان حفلاً شعبيًا مبثوثًا على الهواء، يوثق لمظهر من مظاهر الجنون الجماعي النادرة، عكسته كاميرات التلفزة الرسمية، وهي تنقل تباري حضور الحفل، وعلى رأسهم الممثل الرسمي لحكومة الأمر الواقع، الوزير خالد الأعيسر، في رجم تمثال قيل إنه يرمز للقائد “محمد حمدان دقلو”.
الذي من مفارقات “موته الافتراضي”، ما قاله قائد سلاح الجو السوداني الأسبق، صلاح عبد الخالق، في مقابلة صحفية، مؤكدًا: إن حميدتي قد توفي يوم 17 أبريل 2023، أي بعد يومين فقط من اندلاع الحرب، معبّرًا عن ذلك بثلاث كلمات قاطعات: “مات، مات، مات”.
بل والأدهى من ذلك، أن الطيار السابق لم يكتفِ بهذا الزعم، بل قال لإحدى الفضائيات ما يُفهم منه أن حميدتي، الذي تم قصف مقره بطائرة، ربما لن يستطيع القيام كسائر الأموات، حتى في يوم البعث والحشر، بعد قيام الساعة.
على أية حال، فشائعات موت الرجل تتوالى.
ومن بين أشهرها، في فبراير الماضي، صورة لقبرٍ متواضع كُتب على شاهده اسم “حميدتي”.
انتشرت هذه الصورة انتشار النار في الهشيم، لكنها لم تكن سوى كذبة رقمية لا أكثر ولا أقل، كشفت زيفها منصة “إيكاد”.
المهم، كلما أُعلن أحدٌ عن موته، عاد حميدتي كطيفٍ يتحدى المطارق، عبر تسجيلات صوتية، مصوّرة وغير مصوّرة، ظلت تُبث طوال الأعوام 2023 و2024، وأخيرًا قبل يومين فقط، في الثاني من يونيو الجاري من هذا العام 2025.
يبدو أن هذه الشائعات ليست مجرد كلامٍ، بل رصاصاتٌ تُطلق في معركة حربٍ نفسية ضارية، تستهدف كسر معنويات جنوده في الميدان.
وشاهدٌ آخر، هو القائد المنشق عن الدعم السريع أبو عاقلة كيكل، قال للصحفيين مؤخرًا: إنه كان على تواصل مستمر مع القائد حميدتي، بشكل شبه يومي حتى فبراير الماضي، نافيا رواية موته، ومؤكدًا أنه ظل في حالة صيام دائم منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عامين.
فحميدتي بعد تجربة هذه الحرب لم يعد في ظني هو “حميدتي” ما قبلها، أو أنه مجرد قائد عسكري قدمته للتاريخ أحداث الثورات والانقلابات والحروب الأخيرة في السودان؛ إنه رمزٌ يتحدى الآن كثيرا من الاشواك والصعاب التي رمتها الأقدار علي طريقه، عبر طاقة إضافية يستمدها من طقوس طريقته التجانية، ومن قوة أذكارها، وأورادها، وأسرارها، ليقود معركة موازية أخري تنطلق من داخله، ومن عالم باطني عميق.
إذ في الواقع هناك الآن مقدمات، لشخصية أسطورية تتخلق عن نحو ما، رغم ثمنٍ هذه الحرب الباهظ: إذ شبح الجوع يطارد ثمانية ملايين نازح، ووباء الكوليرا يفتك بمن تبقي من سكان العاصمة الخرطوم.
وفي صراع كهذا، ربما لا يولد أبطال سوي من رحم هذه المعاناة نفسها، أنها معاناة تلاقحت من مزيج كارثي مخيف: جوعٌ وكوليرا، موت ودمار، دماء ودموع، تشرد وضياع، ثم هذه الورطة الكبري الجديدة، ورطة “السلاح الكيماوي”، التي ستعيد البلاد لا محالة الي العزلة والي قفص العقوبات من جديد.