
“إنا لله وإنا إليه راجعون.”
ومن كان في حنايا الروحِ مسكنُه، فلا فرقَ إن رأته العينُ أو غاب.
(الموتُ عَزالٌ)، وما بيخبِّر.
نحن نسير على كفِّ القدر، ذلك الكفُّ الذي لا نراه، لكنه يحملنا، يصعد بنا حينًا، ويهبط بنا حينًا آخر، ولا يُخبرنا: متى؟ ولا كيف؟
نبتسم اليوم، وربما نبكي غدًا.
نخطّط، نحلم، نحاول، ثم نفاجأ أن ما كنا نريد ليس هو ما كُتب لنا.
كم من مرة طمعنا في شيءٍ بكل قلوبنا، وجاء غيره، فظننا أنه شرّ، ثم اكتشفنا أنه خير،
وكم من مرة فرحنا بما أتانا، ثم عرفنا متأخرين أنه كان اختبارًا.
القدر لا يستأذن، ولا يفسّر، لكنه يمضي بثبات،
يُعلّمنا أن نرضى دون أن نستسلم، وأن نؤمن دون أن نفهم كل شيءٍ في هذا العالم.
لا نملك إلا أن نسير بثقة، نُرضي الله، ونجاهد في الخير، ونترك الباقي على الذي بيده اللوحُ والقلم.
نمشي ولا ندري ما المكتوب، لكننا نعلم أن مَن كتب هو أرحم الراحمين.
رحلت أنيسة روحي “رفيدة” من هذا العالم،
قبل أن تتوشح بزفافِ الفرح،
فسقطت نجمة، ونقص ظل، وحزنت شجرة، وانكسرت قافية،
ونقصت طمأنينة، وازداد الشعور بالبرد،
وحدث شرخٌ أبديٌّ في القلب.
ولعمري، ما رأيتُ شخصًا صابرًا، صامدًا، مجاهدًا، محتسبًا، مسخِّرًا نفسَه وجهدَه ووقته ومالَه للناس،
مثل “رفيدة”.
تتبتّل في محراب الله ليلًا ونهارًا،
ساجدة، عابدة، شاكرة، حامدة.
لا تدنو من خطيئة، ولا تخوض في عرض أحد،
ولا تذكر شخصًا بسوء، ولا تجامل، ولا تتصنّع، ولا تتجمّل،
ولا تهدر وقتًا في الفراغ.
ويكفيني أني تعرّفت عليها في عملٍ خيري،
لم أكن أعرفها بتاتًا.
هي تعرفني بحكم مجال الإعلام وانتشاره فقط،
وعندما بحثنا عن أحدٍ يأتينا بأدويةٍ من السعودية لصالح إحدى المبادرات،
راسلتني وقالت: “أنا من سأتكفّل بإيصالها لكم في السودان حتى الأبيض”.
فيا الله، على إنسانية “رفيدة”، وهمّتها، وإحساسها بغيرها!
اللهم ارحم من كانت بهجةً لأيامي،
ونورًا لأفكاري،
وسندًا لأحلامي،
وظلًا لآمالي.
في كل مرة يتبادر إلى نفسي سؤالٌ أطرحه للعامة؟ أو تأكيد:
هل تعلم،
ما معنى أن يحبك إنسانٌ مُتعب؟
متعبٌ من نفسه، ومن عمله، ومن شعوره السيئ،
متعبٌ من ضياعه في هذه الدوامة التي تُسمّى “الحياة”.
أتَعلم كيف يُواجه شعوره، ويقاتل ليلًا،
حتى يبقى بهذه القوّة أمامك؟
أن يبقى صامدًا، في الوقت الذي يُطلب منه البكاء؟
وفي محاولاته لإسعادك، بينما داخله يعجّ بالخراب!
شخصٌ انتهت قدرتُه الهائلة التي لطالما استنزفها لكي يستمر،
شخصٌ مُنهك لا يستطيع إيماء رأسه،
يترك بقايا حربه على سريره،
ويرسم ابتسامةً جميلة على وجهه،
ويغادر مسرعًا من عتمته إلى نور وجودك
إلى محادثتك، متأملًا ملامحك التي تعالج أوجاع قلبه
دي “رفيدة” التي كانت ظلِّي حين أشرق، ودفئي حين أَبرُد.
كانت تلمح في عينيّ الأمان دون أن أطلبه.
روَت ظمأ مشاعري بكلمة: “أنت ملجأي”
وكانت تُطفئ مخاوفي بنظرة،
كانت تربت على كتفي حين أتعب،
كنت أفهم صمتها قبل حديثها.
كانت وطنًا لا تغادره روحها أبدًا.
كنتُ، ولا زلت، أراها بعيون الامتنان، ولو بأبسط أفعالها.
كانت سندي الذي لا غنى عنه،
الذي تُعانق روحه بكلمة، قبل أن تُعانق يديه.
كانت تحتضن تعبي قبل فرحي،
كانت كلماتها نبعَ قوتي،
كانت حُبي العميق، الذي لا يحتاج إلى دليل،
وسكينتي التي أعود إليها مهما ابتعدت.
كانت تُحادثني في لحظة غير متوقعة،
وكان وداعها هادئًا وحنونًا لحياتي، رغم كل الحزن،
لأنها رحلت عن الفانية،
وكانت آخر كلماتها في الدنيا:
“أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.”
يا الله من الوجع
كانت “رفيدة” ملاذًا،
ومكانًا أستريح فيه من تعبي،
كانت تفهمني، تُدرك صمتي،
تلمح من نبرتي تعبي، ولا أهون عليها،
كانت نصفي، بل كلي، حتى مضينا معًا إلى كلمة “أنا”
أُعزِّي نفسي وإياكن، أخوات “رفيدة” وأخواتي.
أنتنّ نديّات كالسلام،
قويات كالحرب،
رقيقات كالخيال،
سخيات حين تُعطين،
وأميرات وملكات.
فقط، اصبرن وصابرن.
عزاؤنا أنها ذهبت للأحنّ، والأرحم، منا جميعًا.
وأقول فيكن كما قال محمد الحسن سالم حميد في قصيدته:
“مصابيح السماء.”
قادرات على
صد الحِدَيْ
جاسرات على
صقر النكد .
إيدين بنيات الفريق
بتهدهد الطفل الرضيع
بتعدي شيخ
دومة الحفير
تشلخ لبق
تسقي الخدير
بتعوس
وتفرك للملاح
بتورِّق اللوبي
وتحش .
تمسك مراح
تحلب تخُش
تغسل هموم أيامه
في طشت الحلم
تنفض تشر الشوق
هِدِم
تنشل من البير
أم تلاتين باع
تعتِّل تفزع الطيّانة
لو ما تجدع التبّانة
بتجيّه بيوت
تغزل خيوط
بتطرز المنديل
تخيِّت لي طواقي العيد
صبر
بتَتَبِبْ السجاج
مع الفجاج .
تقوم
بتحش تمر
تخرت سبيط
بتعتِّق الدكّاي
وتخبز للصفاح
بتكفّي عيزومة
وضيوف
بتغني قيدومة
وتطوف
بتهني
بتودي وتجيب
بتحني
بتدلك حبيب
بتولِّد الأمات
تربِّي على الصلاح
زي ما بتضمِّد للجراح
إيدين بنيات الفريق
إن داهم الحلاّل
خطر
قادرات على
شيل السلاح
“رفيدة” الآن في البرزخ،
لا مال ولا بنون،
وإنما فترة انتقالية ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
فهي، بإذن الله، أقرب إلى الله منا.
وهي هناك.
نسأل الله العلي القدير الرحمة والمغفرة لها،
وأن يُسكنها فسيح الجنات،
وأن يُلزمنا الصبر وحسن العزاء في رحيلها “الصدمة”،
وجزاء الإحسان لكل من شاركنا الأحزان بصدق،
من الأهل، والأصدقاء، والزملاء، والجيران،
ومن كل الولايات، وخارج السودان،
ولكل من أبرق معزيًا.
تظل “رفيدة” عالقةً فينا، بكل ما تركته من أثر جميل، وسيرةٍ عطرة.
موتها مصيبة كبرى، وأمرٌ جلل، وامتحانٌ صعب، وليلٌ طويل علينا.
ولكنه أمرُ الله النافذ.
إنه القهار، الجبار،
بيده كل شيء.
نحن منه، وإليه.
هو من أعطى، وهو من أخذ.
“كل نفسٍ ذائقة الموت.” صدق الله العظيم.
اللهم ارحم من كانت بهجةً لأيامي،
ونورًا لأفكاري،
وسندًا لأحلامي،
وظلًا لآمالي.
اللهم إن “رفيدة بنت عيسى ود شعيب” في ودائعك
فاجعلها في مساكن الجنة آمنة، يا رب العالمين.
اللهم اجعلها في سِدرٍ مخضود، وطلحٍ منضود، وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرةٍ لا مقطوعةٍ ولا ممنوعة، يا رب العالمين.
اللهم اجعل قبرها روضةً من رياض الجنة،
واجعل من فوقها نورًا، ومن تحتها نورًا، وعن يمينها نورًا، وعن شمالها نورًا،
واجعلها نورًا يا رب العالمين.
اللهم ببركة هذه الأيام المباركة، اشفع لها بمرضها الذي ابتليتها به،
واجعله لها زادَ خيرٍ في الآخرة،
وقُل لها: “طبْتِ وطابَ مسعاكِ، ادخلي الجنة مع الداخلين.”
إنك ولي ذلك، والقادر عليه.
انتهت حقبةٌ من المودة والوئام،
وبقيت الذكريات…
إذاعي سوداني (*)