مقالات

الإسلام السياسي سرطان في جسد البلاد 

صلاح شعيب

نجحت النسخة السودانية للإسلام السياسي في إغراق أهل البلاد في مآس ٍوطنية لا مثيل لها في التاريخ السوداني الحديث. إذ فجرت تنوعاتهم المناطقية، والعرقية، والطبقية، والتي انطوت عليها تناقضات، ومظالم تاريخيّة، أرهقت كاهل السياسيين، وورطتهم في مواقف نيئة، ومتناقضة، وكسولة. وبرغم أن الأزمة السودانية قد بدأت عند فترة باكرة قبل وجود أي تأثير للإسلام السياسي في السلطة، والمجتمع، إلا أن حيازة الإسلاميين على السلطة أوصلت هذه الأزمات إلى الحضيض. 

صحيح أن كل المجهودات التي بذلتها الحكومات السابقة لم تختلف كثيراً عن المعالجات الاحتيالية التي عمّقتها تجربة المشروع الحضاري، ولكنها لم تكن لتصل إلى مرحلة الثأر ضد الشعب كما قررته هذه الفئة المؤدلجة دينياً. 

وحتى تخيب كل التوقعات الحادثة الآن حول حدوث الانفصال الإداري للدولة السودانية بين غربها، وبين شمالها، فإن هناك حاجة نوعية لمجهودات ضخمة تنتظر الوحدويين السودانيين جميعاً للإبقاء على الدولة السودانية بجغرافيّتها الموروثة بعد استقلال جنوب السودان.

فمع استمرار ابتزازها من قبل الإسلاميين، ظلت معظم الأحزاب المركزية عاجزة حتى قبل الحرب من اشتقاق رؤى جادة، وعملية، تحافظ على وحدة البلاد عبر سياسات جريئة تتعلق بتوضيح شكل علاقة الدولة بالدين، وسد فجوة التهميش الوظائفي والتنموي، وطرح مشاريع للحكم تعتمد على الأفكار السياسية التنموية أكثر من التمائم الأيديولوجية الدينية، والسياسية. وتلك تعد واحدة من أدواء الأحزاب المركزية، إذ تعلي دائماً من قيمة مواقفها الأيديولوجية عوضاً عن تقديم البرامج المفصلة المتعلقة بمصلحة البلاد، والتعامل الدبلوماسي، والاقتصادي، مع المحيطين الإقليمي، والدولي.

وكما هو حال الوضع الذي ورثته دول الإقليم – بعد وصول الإسلام السياسي للسلطة، وتمديد سلطته المجتمعية في أفغانستان، وفلسطين، وإيران، ولبنان، والجزائر، وليبيا، واليمن، والصومال، ومصر، وسوريا – فإن القطر السوداني دفع ثمنا غالياً لهذه المغامرات الأيديولوجية الإسلاموية بالمزيد من التعقيدات المضاعفة في ما تعلق بنسيج البلاد المجتمعي. فقد تمكن الإسلاميون السودانيون من اختراق الدولة السودانية منذ عام 1978، ومنذ ذلك التاريخ دخلت البلاد في تحديات وجودية لإخراجها من الهوس الديني الذي يقوم لاحقاً باعتماد الحرب وسيلة للانتقام من الانتصار عليه بثورة الشباب في ديسمبر ٢٠١٩.

وما تلى هذا التاريخ هو بالضبط مناهضة الإسلاميين السودانيين الدموية العنيفة لحقائق التاريخ، وعدم القبول بالهزيمة التي مُني بها مشروعهم الحضاري الانقسامي، وذلك عبر التخطيط لهذه الحرب التي ظنوا أنها ستعيد لهم السلطة. وقد تقاصرت مجهودات القوميين السودانيين الجماعية لإصلاح الوضع، وجوبهت بتآمر شرس من الإسلاميين الذين وظفوا فيه كل ما يخالف نواميس المبادئ الإنسانية.

فالإسلام السياسي – ونظراً لاعتماده الأساس على تجاوز الأعراف الدينية، والمجتمعية – تفوق ميدانياً على كل محاولات الأحزاب السياسية السودانية لإعادة المسار السياسي إلى طبيعته التي ارتبطت بمعالجة التشوهات التاريخية التي ورثناها منذ الاستقلال، على ما في هذه المحاولات من ضعف ذاتي، وتحديات موضوعية، قاسية. 

حال السودان الآن لا يرثى له فحسب، وإنما أيضاً يمنح فرصاً للاعتبار وسط المسلمين، والعرب، والأفارقة، من خطورة الإسلام السياسي الذي ديدنه تقسيم مواطني الدولة القطرية إلى فريقين: مسلمين، وإسلاميين. 

التمايزات في المواقف وسط صفوف الوطنيين السودانيين الآن إزاء الحرب الجارية في البلاد دلالة كبيرة على تمكن الإسلام السياسي في خلط الأوراق. ذلك في وقت يتعمد كتاب ديمقراطيون الإشارة إلى أن اللوثة بالكوزنة تتمكن لدى الذين يكشفون مؤامرات الإسلاميين المثبتة لإغراق البلاد في بحور من الدماء. وهذا الدور الإعلامي الخبيث جزء من محاولات بائسة لإعفاء الإسلام السياسي من دوره في تخليط أوراق الأزمة السودانية. وهو ذات الإسلام السياسي الماكر الذي يوظف موارده المالية المسلوبة من البلاد لصالح حملات إعلامية لتشويه حقائق الأزمة السودانية، ووضع المتاريس أمام فرص حلها.

لقد انطلت هذه البروبقندا على عدد وافر من الناشطين السودانيين فراحوا يزيدون نار الخلاف بين المركبات المجتمعية السودانية بينما يهنأ الإسلاميون بتحقيق مشروع تفريق دم جرائمهم وسط كل القبائل.

في مناخ كهذا يصعب إقناع المؤيدين الديمقراطيين للحرب بالرجوع إلى كلمة سواء لمعرفة تجليات الأزمة التي سببها الإسلام السياسي بعد فقدانه السلطة عبر نضال 

لقد جددت أوضاع ما بعد ثورة ديسمبر العراك السياسي الموروث منذ الاستقلال وسط الأحزاب المركزية ما أتاح الفرصة لأعداء الديمقراطية والقوى الانتهازية المدنية والعسكرية لإنهاء حقبة الانتقال نحو الديمقراطية. وقد تصاعد الخلاف بعد انقلاب البرهان وحميدتي والحرب ما صعب إمكانية إعادة تفعيل التحالف الجبهوي المجرب بين التيارات الحزبية المركزية. وساهم هذا الفراغ في إعادة بعض رموز الحركة الإسلامية للمواقع التي فقدتها بعد الثورة في الخدمة المدنية، والقطاع الخاص.

ومع بروز سلطة تحالف تاسيس الموازية كعامل جديد في المشهد السياسي يتجوهر مستقبل السودان في القتامة، وربما ينذر بالانقسام المجتمعي في ظل غياب دور الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، والمفكرين، والمثقفين القوميين في حمل طرفي الحرب لوقف إطلاق النار.

وأمام هذه الحقيقة المرة فإن نجاح الإسلام السياسي في تشظي وحدة المكونات السودانية ناجم أيضاً بدرجة قصوى عن ضعف الفعل السياسي لدى النخب المركزية العاجزة عن صيانة وحدتها. وما تزال فرص الدقائق الأخيرة متاحة أمامها إذا أرادت خلق معجزة التوحد أمام خطة الإسلاميين المستندة على استعادة حكمهم، أو تمزيق الدولة الحالية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى