تقارير

أموال بلا مجتمع: كيف اختُطفت المسؤولية المجتمعية في منطقة الباوقة؟ (*)

تقرير - سايب

مع فجر 12 يونيو 2024، تحوّلت شوارع الباوقة الهادئة إلى ساحة مطاردة واشتباكات انتهت باعتقال “ود أحمد علي” وعدد من رموز المجتمع المحلي. لم يكن ما جرى مجرد حدث أمني عابر؛ بل انفجاراً لغضب مكتوم ظل يتراكم لسنوات.

فخلف أصوات الرصاص يلوح سؤال أكبر: أين اختفت أموال المسؤولية المجتمعية التي وعدت شركات التعدين بتخصيصها لتنمية المنطقة؟ وبينما تُنقل أطنان الذهب يومياً من نهر النيل إلى خزائن الدولة والشركات، ظل الأهالي محرومين من أبسط الخدمات الأساسية: مدارس مؤهلة، مستشفيات متطورة، ومياه صالحة للشرب.

تعدين أهلي للذهب

أداة سيطرة 

في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، تحوّل مفهوم المسؤولية المجتمعية إلى أداة للسيطرة السياسية، حيث صُرفت الأموال عبر واجهات الحزب الحاكم بعيداً عن أي مساءلة. ويؤكد الصحفي مصعب عبد الجبار أن “ما كان يُسمى مسؤولية مجتمعية لم يكن سوى غطاء لإدارة فاسدة تخدم مصالح المؤتمر الوطني.”

على الأرض، لم يرَ الأهالي شيئاً من المليارات التي أعلنت عنها الشركة السودانية للموارد المعدنية. المشاريع الموعودة إما تعثرت أو نُفذت بشكل صوري، فيما ظلّت القرى غارقة في الفقر. وعندما حاول السكان الاحتجاج، جوبهوا بعنف أمني، قبل أن تُجبر الضغوط بعض الشركات التابعة للجيش على دفع مساهمات مالية سنوية لم تصل في النهاية إلى المجتمع المحلي.

مع سقوط نظام البشير، بدت نافذة جديدة تنفتح أمام المجتمعات المحلية. ففي الباوقة وبربر وأبو حمد انتخب الأهالي لجاناً بالتراضي لتولي ملف التعدين، ولأول مرة صار صوتهم مسموعاً لدى وزارة المعادن والشركة السودانية للموارد المعدنية.

خلال تلك الفترة انعقد المؤتمر القومي للتعدين في الخرطوم، موصياً بتخصيص 10% من عائدات الذهب لصالح المجتمعات المنتجة، لكن النسبة خُفضت إلى 4% بموجب القرار 90 الصادر في نوفمبر 2021. ورغم ذلك، اعتُبر القرار مكسباً تاريخياً لأنه أقرّ للمرة الأولى بحق الأهالي في نصيب من ثرواتهم.

وبإدارة تلك اللجان المنتخبة، ظهرت مشروعات صغيرة وملموسة: توفير سيارات إسعاف، صيانة مدارس ومحطات مياه، وتأهيل بعض المراكز الصحية. يقول الناشط المطلبي أمير عمار: “بعد الثورة، أحسسنا لأول مرة أن أموال الذهب تعود إلينا. لم يكن كافياً، لكنه كان بداية.”

مدينة الباوقة

حسابات بلا رقابة

لكن الأمل لم يدم طويلاً. فمع انقلاب أكتوبر 2021، حُلّت اللجان المنتخبة وعادت السلطة لتعيين عناصر مرتبطة بالنظام السابق. وبموجب القرار 90، حُوّلت أموال المسؤولية المجتمعية إلى حسابات المحليات، مانحةً المديرين التنفيذيين سلطة التصرف فيها كإيرادات عامة. وهكذا استعادت وزارة المالية قبضتها على موارد الذهب، فتوقفت المشاريع التي انطلقت خلال الفترة الانتقالية.

يقول الصحفي مصعب عبد الجبار إن استغلال القرار 90 جعل أموال التنمية “أداة في يد المحليات، تحولت إلى حسابات رسمية بلا رقابة، وغابت الشفافية تماماً”. النتيجة: استمرار غياب الخدمات الأساسية وتراكم الفساد.

في مواجهة هذه الاتهامات، دافعت الشركة السودانية للموارد المعدنية عن سياساتها. فأوضح مديرها السابق مبارك أردول أن ولاية نهر النيل نالت في 2020 أكثر من 15 مليون دولار، إضافة إلى مشروعات مجتمعية تفوق 500 مليون جنيه ورصيد يبلغ نحو 800 مليون جنيه مودع في بنك السودان المركزي. وتؤكد الشركة أن الصرف يتم عبر لجان خماسية تشمل ممثلين عن المجتمع المحلي.

لكن تضارب الأقوال زاد المشهد غموضاً. ففي أغسطس 2022، وأثناء السيول التي دمرت قرى الولاية، وجّه البرهان باستخدام أموال المسؤولية المجتمعية لإعمار القرى، بينما نفت الوالية آمنة المكي استلام أي مبالغ. وفي المقابل، دعا حميدتي الأهالي إلى المطالبة بحقوقهم من هذه الأموال مؤكداً أنها “كفيلة بإعادة بناء القرى”، لكن بشرط مراجعة أوجه صرفها.

الأمر ازداد التباساً مع اعتراف أردول نفسه بأن 50% من الأموال توضع تحت تصرف القيادة العليا، و30–50% تُنفق على الشركة، فيما لا يتجاوز نصيب الولايات 20%.

ومع تقلّص دور الحكومة إلى مجرد وسيط بين الشركات والأهالي، ظلّت لجان المجتمع المحلي تتمسك بمطلب إلغاء القرار 90 وانتخاب لجان مسؤولة عبر جمعيات عمومية تضم محاسبين ومراجعين مستقلين، لضمان رقابة حقيقية على الأموال بعيداً عن هيمنة المحليات.

منجم لتعدين الذهب

إنفاق بلا أثر

وفي تطور لاحق، أعلن المدير العام للشركة، محمد طاهر عمر، أن إنتاج السودان من الذهب في النصف الأول من 2025 تجاوز 37 ألف طن بإيرادات قاربت 400 مليون دولار، مؤكداً أن ولاية نهر النيل تتصدر الإنتاج، وأن الشركات دفعت هذا العام نحو 23.8 مليار جنيه تحت بند المسؤولية المجتمعية. لكن السؤال الشعبي ظل يتكرر بإلحاح: أين ذهبت هذه المليارات؟

وبحسب تقارير رسمية، وُجهت هذه الأموال إلى عدد من المشروعات في محليات الولاية، بينها بربر وأبو حمد والباوقة. ففي وحدة العبيدية والفاروق الإدارية، شمل الإنفاق شراء آليات ثقيلة (قلابات، جرارات، قريدرات)، إضافة إلى سيارات إسعاف وتجهيزات مدرسية مثل الإجلاس والزي والكراسات. أما الباوقة فقد خُصص لها نحو 48 مليون جنيه لمشروعات متفرقة، أبرزها عربات لترحيل التلاميذ والمعلمين، سيارة إسعاف، جهاز لفحص الدم، ودعم محدود للكهرباء والتعليم والزراعة. وفي محلية أبو حمد، جرى تمويل مشاريع للأمن الغذائي وتوفير أجهزة ومعدات طبية وأسلاك كهربائية لقرى خارج الشبكة القومية.

ورغم هذه القوائم التي تعلن عن ملايين الجنيهات، إلا أن انعكاسها على حياة السكان يكاد يكون معدوماً. ويرى ناشطون محليون أن ما يجري حول عوائد التعدين ليس خلافاً إدارياً فحسب، بل انعكاس لصراع سياسي مؤجل، تحوّل فيه المال إلى ساحة نفوذ وتنافس. ويشيرون إلى أن لجنة توزيع أموال المسؤولية المجتمعية تخضع لسيطرة كوادر من النظام السابق وعدد من المنتفعين، ما جعلها أداة سياسية أكثر من كونها آلية للتنمية.

وتفسر ذلك الباحثة ابتسام حاج أحمد، صاحبة دراسة عن المسؤولية المجتمعية لشركات التعدين، بقولها: “المسؤولية المجتمعية في السودان ما زالت تُمارَس بصورة شكلية، تقتصر غالباً على أنشطة خيرية مؤقتة لا ترتبط ببرامج تنمية مستدامة تعالج الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية المتأثرة بالتعدين.”

مدينة الباوقة

أكثر قتامة

مع اندلاع الحرب في أبريل 2023، دخل ملف المسؤولية المجتمعية مرحلة أكثر قتامة؛ إذ تحولت الأموال المخصصة للتنمية إلى تمويل الاستنفار العسكري، فتوقفت المشاريع الخدمية تماماً، بينما استمر تدفق الذهب من أرض الباوقة إلى حسابات الشركات والسلطات. ويصف ناشطون محليون هذه الأموال بأنها “رشوة مقنّعة” لشراء صمت الأهالي حيال الأضرار البيئية، مشيرين إلى أن جذور الصراع تعود إلى التحول من التعدين الأهلي إلى استثمارات كبرى احتكرتها شركات مرتبطة بالمنظومة الأمنية وحزب المؤتمر الوطني المحلول، ثم دخول شركات أجنبية بينها الروسية، حيث اندلع عام 2019 صدام دموي خلّف قتلى من أبناء المنطقة بعد منعهم من التعدين في أراضيهم.

ويقول عضو تجمع الأجسام المطلبية، عثمان أحمد الطاهر، إن ما يجري اليوم امتداد لصراعات قديمة حول عوائد الذهب، إذ احتكرت شبكات مرتبطة بالمؤتمر الوطني الأموال، ما فجّر الغضب الشعبي. ومع انتشار السلاح وتصاعد خطاب الكراهية، تحولت مقاومة الأهالي من احتجاجات سلمية إلى نزاع مسلح ضد ما أسموه “مافيا الذهب”.

تواصلنا مع عدد من الشركات، إضافة إلى إدارة المسؤولية المجتمعية بالشركة السودانية للموارد المعدنية، إلا أننا لم نتلقَّ رداً.

وفي يونيو 2024، بلغت الأزمة ذروتها في الباوقة؛ فبعد أعوام من تراكم الغضب وانعدام الثقة في إدارة أموال المسؤولية المجتمعية، قرر “ود أحمد” حمل السلاح تحت شعارات استرداد الحقوق ووقف التعدين. غير أن هذه الحركة التي وُلدت من رحم المطالب التنموية سرعان ما اكتسبت أبعاداً جهوية وسياسية، واتُّهمت مجموعتها بتمويل أنشطتها من عائدات الذهب وتبني خطاب عنصري. وبذلك تحولت قضية التنمية المؤجلة إلى شرارة نزاع دموي جديد، كشف كيف يمكن لفشل إدارة الموارد أن يتحول إلى صراع مفتوح.

ويختصر الناشط الصادق هاشم المشهد بقوله: “فشل إدارة أموال المسؤولية المجتمعية كان الشرارة الأولى. ما يُنهب من مواردنا لا يقل خطورة عن الحرب نفسها.”

تحوّل ملف المسؤولية المجتمعية إلى مرآة لصراع أوسع على السلطة والثروة في السودان. فالعوائد التي كان يُفترض أن تُترجم إلى مدارس ومراكز صحية ومياه شرب نقية، تحولت إلى وقود للعبة سياسية وعسكرية، فيما تُركت المجتمعات المحلية فريسة للفقر والتهميش

اليوم يقف أهالي الباوقة بين ثلاث نيران: فساد السلطة، وجشع شبكات الذهب، واستنزاف الحرب. ويبقى السؤال معلقاً: هل يستعيدون حقهم في نصيب عادل من ثرواتهم، أم يظل شعار “المسؤولية المجتمعية” مجرد لافتة لامعة تُرفع في المؤتمرات بينما تُدار الأموال خلف الأبواب المغلقة؟

بالنسبة لسكان المنطقة، لم تعد القضية مطلباً تنموياً فحسب، بل صارت معركة وجود يرتهن بها مستقبل العلاقة بين الذهب والمجتمع.

 

(*) زمالة الصحافة الاستقصائية-سايب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى