تقارير

شمال كردفان.. تمدد عسكري وهاوية إنسانية

تقرير - رشا رمزي

في مشهد يختزل المأساة السودانية المتصاعدة، تمددت رقعة القتال هذا الأسبوع في شمال كردفان، حيث أعلنت قوات الدعم السريع صباح الأحد سيطرتها على منطقتي أم دم حاج أحمد والزريبة، بعد أيام قليلة فقط من إحكام قبضتها على مدينة بارا. هذه التحركات العسكرية السريعة رسمت ملامح مرحلة جديدة من الصراع، تجاوزت الحدود التقليدية للجغرافيا السياسية لتتحول إلى مأساة إنسانية متكاملة الأركان. فبينما تسعى القوات إلى توسيع مناطق نفوذها، تفر آلاف الأسر في سباق يومي مع الموت والعنف، وسط غياب شبه كامل لأي حماية أو استجابة إنسانية فعّالة.

سيطرة الدعم السريع على بارا شكلت نقطة تحول ميداني ونفسي في آن واحد، إذ تحولت المدينة إلى عنوان للرعب والانتهاكات، وفق ما أكده بيان شبكة أطباء السودان التي وثّقت تصفيات جماعية راح ضحيتها 47 شخصاً بينهم نساء، داخل منازلهم، بتهمة الانتماء للجيش السوداني. تقارير محلية أخرى تحدثت عن قوائم تضم أكثر من مائة مفقود منذ دخول القوات المدينة، في وقت وصفت فيه مجموعة محامي الطوارئ ما حدث بأنه “مجزرة مروعة”، مؤكدة أن الأحياء الشمالية والسوق كانت مسرحاً لعمليات قتل ونهب وتخريب، تزامنت مع انقطاع كامل للاتصالات والإنترنت، ما جعل توثيق الجرائم مهمة شبه مستحيلة.

الجيش في شمال كردفان

ومع تصاعد الرعب، شهدت بارا موجة نزوح جماعي غير مسبوقة، حيث اضطر أكثر من 2500 شخص إلى مغادرتها خلال يوم واحد، بحسب تقديرات منظمة الهجرة الدولية. شهود عيان تحدثوا عن فرار ليلي جماعي لعشرات الأسر سيراً على الأقدام نحو القرى المحيطة ومدينة الأبيض، بعد أن فقدوا الأمل في الأمان داخل مدينتهم. أصوات المسنين والأطفال وهم يعبرون الطرق الترابية المظلمة تحولت إلى صدى حيّ يختصر مأساة الشمال السوداني كله.

وفي خضم هذه الفوضى، جاء تصريح الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان مساء الاثنين ليزيد الصورة تعقيداً، إذ أعلن أن مدينة الفاشر أصبحت تحت سيطرة الدعم السريع، وأن الجيش انسحب منها إلى مواقع “أكثر أمناً”. التقرير الصادر عن منظمة الهجرة الدولية بعد ساعات من هذا الإعلان أكد أن أكثر من 26 ألف شخص نزحوا من المدينة خلال يومين فقط، ما يعكس حجم الانهيار الإنساني. البرهان برر الانسحاب بأنه “تقدير ميداني لتجنب الدمار وحماية المدنيين”، واصفاً ما جرى بأنه “تدمير ممنهج” يستدعي إعادة تقييم استراتيجيات الحرب.

قوات الهجانة

إلا أن ما يدور في الميدان يتجاوز الحسابات العسكرية. مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ كشف عن تقارير “مقلقة للغاية” توثق إعدامات بإجراءات موجزة، وجرائم عنف على أساس الهوية، خاصة بعد سيطرة الدعم السريع على أجزاء واسعة من الفاشر وبارا. هذه الوقائع دفعت جهات دولية ومحلية إلى إطلاق نداءات عاجلة لحماية المدنيين، في ظل صمت رسمي يقترب من التواطؤ.

وفي ظل هذا الانهيار المتسارع، برز صوت مبارك أردول، القيادي في الكتلة الديمقراطية، الذي دعا البرهان إلى التجاوب السريع مع مقترح هدنة إنسانية مدتها ثلاثة أشهر تقدمت به “الآلية الرباعية” (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، وبريطانيا). أردول رأى في المبادرة فرصة لوقف الكارثة الإنسانية وفتح الممرات الآمنة أمام المدنيين، مطالباً القيادة العسكرية بإبداء مرونة تطبيقية دون المساس بجوهر الاتفاق.

الجيش في شمال كردفان

هذا الموقف جاء متزامناً مع تصريحات مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية، الذي أكد أن واشنطن تواصل اتصالاتها المكثفة مع طرفي النزاع بهدف احتواء الكارثة، مشيراً إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يتابع شخصياً تطورات السودان، ويعتبر الأزمة اختباراً لمدى التزام المجتمع الدولي بحماية المدنيين. بولس شدد على أن وقف القتال هو السبيل الوحيد لتهيئة الأرضية لحوار سياسي شامل يعيد للسودان توازنه المفقود.

في النهاية، تبدو شمال كردفان والفاشر اليوم كمرآة تعكس وجه الحرب في السودان: جبهات تتبدل، ضحايا بلا أسماء، ومدن تتحول إلى رماد. وبين دعوات التهدئة ومشاهد الانهيار، يظل السؤال معلقاً في الفضاء السوداني: هل يمكن لثلاثة أشهر من الهدوء الإنساني أن تُعيد الحياة إلى بلد أنهكته الحروب، أم أن آلة القتال ستواصل حصد ما تبقّى من أمل في البقاء؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى