Uncategorized

  حرب السودان.. قطع الاتصالات والعزلة التامة وجه آخر من المعاناة

كمبالا: 11 ابريل2024 تقرير - عبد المنعم مادبو

لم تجد سارة عبد الرحمن طريقة للتواصل مع شقيقيها المغتربين بإحدى الدول الخليجية منذ انقطاع شبكات الاتصالات والانترنت في مطلع فبراير الماضي إلا بعد أن استجلبت عناصر من قوات الدعم السريع التي تسيطر على ولاية الجزيرة منذ 19 سبتمبر 2023 ثلاثة أجهزة انترنت فضائي “ستارلينك” التي تنتجها شركة “space X” التابعة للملياردير الأمريكي ايلون ماسك ونصبتها في قريتها “ود الماجدي” بمحلية الكاملين.

سارة التي تبلغ من العمر 32 عاماً قالت لراديو دبنقا سكان قرية ود الماجدي والقرى المجاورة لها يواجهون معاناة قاسية بسبب انقطاع شبكات الاتصالات وعدم قدرتهم على التواصل مع أقاربهم خارج ولاية الجزيرة، وأوضحت إنه تم مؤخرا إدخال ثلاثة أجهزة ستارلينك بواسطة قوات الدعم السريع، وهي تذهب مرتين أسبوعيا للتواصل مع شقيقيها بغرض طمأنتهم على وضع الأسرة وتلقي التحويل مالية عبر تطبيق بنكك لتوفير احتياجاتهم المعيشية.

وأشارت إلى أن عناصر الدعم السريع فرضت رسوماً باهظة على الاتصالات عبر الانترنت الفضائي حيث يدفع المتصل مبلغ 5 آلاف جنيه للساعة الواحدة، إضافة إلى انه يتم خصم 10% من التبديل النقدي للمبالغ المحولة عبر التطبيقات البنكية، ونبهت إلى أن أجهزة الاتصال يشرف عليها أفراد من قوات الدعم السريع لذلك لا يستطيعون التحدث بحرية مع أهلم. 

سارة قالت إنها لن تستطيع أن تتحدث مع محرر راديو دبنقا هاتفيا وستكتفي بالكتابة إليه، حتى لا يسمع حديثها أفراد الدعم السريع المشرفين على جهاز ستارلينك مما قد يعرضها للخطر.

معاناة لا حدود لها

فاقمت العزلة التي تسبب فيها انقطاع شبكات الاتصالات والانترنت في أجزاء واسعة من البلاد معاناة الشعب السوداني جراء الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع التي مضى عامها الأول، فمنذ الأشهر الأولى للحرب خرجت ثلاث من مدن إقليم دارفور “نيالا، زالنجي، الجنينة” عن تغطية خدمات الاتصالات والانترنت، قبل أن تتوقف الخدمة بشكل كلي عن البلاد في السابع من فبراير الماضي.

ويقول احمد فؤاد هو شاب من أبناء الجزيرة يقيم في المملكة العربية السعودية “هناك طريقتان للتواصل سكان بعض مناطق ولاية الجزيرة، فإما أن يسافر سكان مناطق غرب الجزيرة إلى المناقل لأجراء الاتصالات، أو القضارف لسكان شرق الجزيرة، أو سنار لسكان جنوب الجزيرة،” وأضاف “أحيانا تكلف الأسر شخصاً من القرية ليسافر إلى القضارف أو سنار ليتواصل مع أقربائهم خارج السودان وينقل لهم أخبار أهلهم وأخبار القرية كلها ويرسلوا عبره المصاريف إلى أسرهم.”

وأوضح احمد فؤاد أن الطريقة الثانية للتواصل هي الاتصال عبر الانترنت الفضائي الذي يوفره عناصر من الدعم السريع، لكنه أشار إلى أن أغلب الناس يترددون في التواصل عبرها، لأنهم قد يتعرضون لنهب هواتفهم بعد أجراء اتصالاتهم، وأضاف “عادي يمكن يعجبهم تلفونك فيقلعوه منك، أو إذا لجأت إليهم للتبديل النقدي “كاش” يسلموك مبلغك ويلحقون بيك في أقرب زقاق ويقلعوه منك”.

رحلة إلى الضعين

في سبتمبر الماضي تمكن المحامي محمد عبد المنعم الريح من السفر من نيالا، التي كانت تشهد وقتها أعنف المعارك بين الجيش والدعم السريع، إلى مدينة الضعين عاصمة شرق دارفور التي كانت شبكة الاتصالات تعمل فيها ليتمكن من التواصل مع أفراد أسرته في بقية ولايات البلاد. قال الريح لراديو دبنقا انه اضطر للسفر إلى مدينة الضعين لطمأنة أهله خارج نيالا والحصول على تحويلات بنكية بعد أن خرجت مدينة نيالا من تغطية الاتصالات والانترنت، لكنه نبه إلى أن هناك من لم يستطع الخروج من نيالا بسبب صعوبة الوضع.

جاء خروج شبكات الاتصالات والانترنت عن الخدمة في وقت فيه كان الناس أكثر حاجة للتواصل لمعرفة أخبار بعضهم في ظل المعارك الشرسة التي تحصد الأرواح وتشرد الشعب السوداني وتدمر البلاد. هذه العزلة أعادت المواطنين إلى ما قبل عصر الاتصالات، حيث اضطر بعضهم إلى استخدام الوسائل البدائية لتبادل معلوماتهم عبر كتابة الخطابات الورقية وأرسالها عبر السيارات السفرية من مدينة لأخرى، بينما يروي المحامي يوسف محمود مأساة تلقيه خبر وفاة شقيقه بعد 10 أيام من رحيله في الخرطوم بسبب انقطاع التواصل بينهما رغم انهما كانا على تواصلٍ يومي قبل أن يفصلهما انقطاع شبكات الاتصال ومن ثم الموت.

فيما يقول الناشط في منظمات المجتمع المدني بمدينة زالنجي عاصمة وسط دارفور مصباح عيسى انه منذ مايو الماضي حتى الآن لم تعد شبكات الاتصالات وان هناك اسر لا تعرف مصير بعض أفرادها لأنهم غير قادرين على التواصل معهم، وأضاف قطع الاتصالات كان له أثر كبير جداً على حياتنا لأنه فصلنا عن أسرنا فأصبحنا مهمومين ومتخوفين تحت أي لحظة نسمع خبر سيئ، وشاءت الأقدار في النهاية توفيت والدتي ولم اسمع بالخبر إلا في اليوم الثاني، فكانت واقعة لها تأثير نفسي كبير، وما كانت سهلة، على حد تعبيره.

في ظل هذه الحرب وتوقف كل سبل كسب العيش لم يتبق للأسر في السودان سوى تحويلات أبنائها في الخارج عبر نافذة التحويلات البنكية، لكن قطع شبكات الاتصالات والانترنت اغلق هذه النافذة الوحيدة للأمل والحياة وازدادت المعاناة، وأصبحت الأسر ترسل أحد أفرادها إلى المدن التي تحظى بالشبكات لتلقي العون من الأقارب.

العزلة تحاصر العمل الطوعي

لم يقتصر أثر انقطاع شبكات الاتصال على حرمان الأسر من عون أبنائها بل أثرت سلبا أيضا على العمل الطوعي المحلي لإغاثة ضحايا الحرب خاصة غرف الطوارئ في المدن التي تتطوع لتقديم المساعدات للمواطنين في المناطق التي تشهد تأثرت بالمعارك بين الجيش والدعم السريع. لأن هذه الغرف تعتمد بدورها على شبكات الاتصال لتلقى المساعدات وتنسيق وتنظيم تقديمها للمحتاجين.

يقول المتحدث باسم غرفة طوارئ جنوب الحزام في ولاية الخرطوم محمد عبد الله كندشة إن انقطاع شبكات الاتصال أعاق المجهودات التي تبذلها غرف الطوارئ لمساعدة المواطنين، وقال إن الغرفة اضطرت إلى استدانة مبالغ مالية ومواد غذائية من التجار في الأحياء خلال الأسبوع الأول من انقطاع شبكات الاتصالات والانترنت، ليتمكنوا من إعداد الوجبات والأدوية للمواطنين، لأن نافذة الدعم الوحيدة التي كانت تعتمد عليها الغرفة هي التحويلات البنكية من الخيرين في الخارج.

وأشار إلى انه بعد مضي نحو عشرة أيام تم إدخال خدمة الانترنت الفضائي كحل جزئي للمشكلة، لكنه واجهتهم المشكلة الأمنية، لأن  المواطنين الذين يتلقون تحويلات مالية يأتون إلى موقع الانترنت الفضائي لاستبدال التحويلات البنكية بمبالغ نقدية وقد يتعرضون للتهديد ونهب المبلغ المالي وجهاز التلفون، ضف إلى ذلك النسبة المئوية التي يتم تحصيلها مقابل تحويل المبالغ من التطبيقات البنكية إلى نقدية، حيث بلغت حدود 25% قبل أن تتراجع لاحقا إلى “15- 20%” واستقرت الآن على نسبة 10%.

وقال إن الأسر قد تضررت هذا الأمر الي حد كبيرة، خاصة عندما تدفع تكلفة الاتصال 3 آلاف جنيه للاتصال ونسبة التحويل النقدي.

انقطاع الطعام والدواء 

فيما قالت عضو غرفة طوارئ ولاية الخرطوم هند الطائف انه بعد انقطاع شبكات الاتصالات في فبراير الماضي تراجعت إمكانيات غرف الطوارئ بولاية الخرطوم في تقديم المساعدات للأسر في الأحياء خاصة في مجالات الصحة والغذاء بسبب توقف التحويلات المالية التي كانوا يتلقونها من الخيرين والمانحين عبر التطبيقات البنكية، وعدم قدرة الغرف على التواصل مع أعضائها المتواجدين خارج البلاد الأمر الذي نتج عنه إغلاق عدد كبير من التكايا والمطابخ المشتركة التي تقدم الوجبات للأسر.

وقالت إن غرفة طوارئ الخرطوم اضطرت بعد ذلك إلى إرسال بعض أعضائها إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل كي يتواصلوا مع الخيرين والمانحين وزملائهم في الخارج لتلقي التحويلات المالية ليتمكنوا من مواصلة تقديم المساعدات للمواطنين، وحذرت من أن توقف التكايا والمطابخ المشتركة بصورة كلية قد يتسبب في كارثة إنسانية في الخرطوم.

وقالت هند إن تأثير انقطاع الاتصالات والانترنت كان كبيراً على المواطنين الذين انقطعت أخبارهم عن بعض، وأضافت: بعد دخول أجهزة ستارلينك في بعض المناطق بجانب العودة الجزئية للشبكات في مناطق أخرى عرف البعض أن أقربائهم توفوا أخرين تعرضوا لمآس لم يسمع بها لقربائهم.

الاتصال بأجهزة الثريا قد تكلفك حياتك

وفي ذات السياق يقول منسق المشروعات بمنظمة عوافي مصباح عيسى إن مدينة زالنجي كانت من أوائل المدن التي خرجت عن خدمات الاتصالات بالبلاد، فمنذ 17 مايو 2023 تعيش المدينة في عزلة تامة ولم تعد الشبكات حتى الآن، مشيراً إلى انه من شهر مايو حتى سبتمبر 2023 واجه سكان المدينة معاناة شديدة إلى أن دخلت خدمة الانترنت الفضائي في شهر أكتوبر الماضي.

وأشار إلى صعوبات كبيرة واجهت المنظمات التي تعمل في المجال الإنساني ورصد وتوثيق الانتهاكات، وذكر انهم في منظمة عوافي اضطروا في شهر أغسطس الماضي إلى استخدام أجهزة “الثريا” للتواصل مع فريق المنظمة هناك رغم كلفتها الباهظة، وأضاف” كنا مجبرين على الاتصالات لأجل إعداد التقارير الشهرية ندفع حوالي 300 دولار شهرياً للاتصالات، فضلا عن خطورة الاتصال بالثريا، فاذا قبضت قوات الدعم السريع على أي من زملائنا بحوزته جهاز ثريا سيتهم فورا بأنه متعاون مع الجيش وهو امر يمكن أن يكلفك سلامتك الشخصية.”

وأوضح إن صعوبة التواصل مع فريق المنظمة في زالنجي أدى إلى أضعاف الخدمات التي نقدمها للمواطنين في المدينة، لأن أي تدخل أنساني يحتاج إلى معلومات حقيقية عما يحدث على الأرض وحجم الاحتياجات كي تبني عليها المنظمة شكل ونوع التدخل.

مصباح أشار إلى أن المنظمة اضطرت بعد ذلك إلى تعيين موظف ليطوف على مناطق نيالا، زالنجي، الضعين في ظروف صعبة جدا   لجمع المعلومات وإعداد التقارير الأولية التي تمكن المنظمة من مواصلة مساعدة المحتاجين، هذه كلها كانت صعوبات واجهت المنظمة وأثرت على أدائها”.

رصد الانتهاكات

نبه مصباح عيسى إلى أن قطع الاتصالات والانترنت أعاق عمل منظمة عوافي في رصد وتوثيق الانتهاكات وكشف عن حجم المشكلات التي واجهت الناشطين الذين يعملون في مجالات الرصد والتوثيق للانتهاكات لحقوق المواطنين المستمرة منذ اندلاع الحرب. وأوضح إن دخول خدمة الانترنت الفضائي لمدينة زالنجي ساهمت قليلاً في تخطي بعض العقبات، إلا إنها كانت باهظة التكاليف كذلك حيث بدأت بتكلفة قدرها 5 الأف جنيه في الساعة وتراجعت بعد فترة إلى 3 آلاف جنيه، لكنه حذر من أن أجهزة ستارلينك بالمدينة باتت مهددة بالإيقاف لأن قوات الدعم السريع بدأت تفرض مبالغ مالية شهرية على أصحاب الأجهزة، الذين يتخوفون من اعتقالهم إذا عجزا عن السداد.

 

حظر ستارلينك

 

فور انقطاع شبكات الاتصالات عن إقليم دارفور استجلب مستثمرون أجهزة الانترنت الفضائي ستارلينك وانتشرت آلاف الأجهزة حتى صارت لا تخلو قرية منها في دارفور. 

بالمقابل حاول البعض إيصال أجهزة الانترنت الفضائي إلى مناطق سيطرة القوات المسلحة عندما خرجت شبكات الاتصالات عن الخدمة بجميع أنحاء البلاد في فبراير الماضي لكن الأخيرة رفضت إدخالها.

وبحسب أحد الموردين محمد احمد الزبير فان القوات المسلحة صادرت منهم عدة أجهزة في مدن “عطبرة، الدامر، الفاشر، وحلفا، وكرري بأمدرمان” وقال الزبير للأسف القوات المسلحة بعد أن صادرتها عادت وباعتها للمواطنين مرة أخرى.

 

وكان المدير العام لجهاز تنظيم الاتصالات والبريد الصادق جمال الدين أصدر في يناير الماضي قراراً بمنع وحظر بموجبه استيراد واستخدام وامتلاك أجهزة ستارلينك أو أي أجهزة لشركات أخرى توفر نفس الخدمة، وحذر القرار المخالفين من التعرض للمساءلة القانونية.

حق أنساني

ويُعد الوصول إلى الاتصالات والانترنت حقاً أساسياً من حقوق الإنسان حيث تعتبر عنصراً حيوياً للغاية لتعزيز مجموعة من القيم المهمة في حياة الإنسان، وهو جزء من حقوق الإنسان المتعلقة بالتواصل والتواصل الحر، ويجب أن يتمتع  الأفراد بالحرية في التواصل والوصول إلى المعلومات دون قيود غير مبررة.

 

  • الأسماء مستعارة حفاظا على الخصوصية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى