
تحدث أمس القائد “محمد حمدان دقلو”، الذي هو رجل صنع علي عين القدر، علي مقاس يكفي لصناعة تاريخ مختلف، هو تاريخ لا زال يخبئه بين طياته وتضاعيفه هذا القدر نفسه.
فدقلو للحقيقة، هو أول رجل كسر شروط النخب المركزية المؤهلة للحكم، كما كسر احتكار القطاع الحضري للمناصب العليا في الدولة، ليصبح الرجل الثاني فيها رغم أنه كان قد اتي صاعدا من الهامش والريف بل من القطاع الرعوي في أدني سلم البناء التقليدي للمجتمعات.
ذلك فضلا عن أنه رجل خرج من تحت غبار المعارك التي صنعت صورته قائدا، له صولات وجولات صنع من خلالها الكثير من الأحداث.
بيد أن حميدتي، بدا وكأن غالب رجال النادي السياسي القديم، كانوا حريصين علي موته أثناء هذه الحرب، باكثر من حرصهم علي أن توهب لهم هم أنفسهم حياة.
فقد لقنوا كل ببغاء سيرة موته، لكي يرددها مرارا وتكرارا، يلح عليها ساسة وسفراء وناشطين ومذيعين، يلوكون رواية موته لحولين كاملين، يملأون الشاشات والفضاء والأسافير، بسؤالهم الأول دائما هل “حميدتي” مات، ام أنه لا زال حيا؟.
لكن السؤال، أفإن مات “حميدتي” هل هو الأنتصار ونهاية الحرب؟، أم أن موته يعني لهم شيئا أكبر من معني الأنتصار في حرب أو في معركة.
ثم لماذا هم قلقون الي هذا الحد، من إستمرار وجوده علي قيد الحياة؟
رغم أن حميدتي كبشر لا محالة هو في النهاية ميت، اليوم أو غدا، طال به العمر أوقصر، بمثلما أنهم هم أيضا ميتون، إذ أن أجل الله اذا جاء لأي من خلقه بالضرورة لا يؤخر.
المهم فانهم قد صنعوا من هذا الرجل بعبعا، وأسطورة وخرافة، رفعوا بها ذكره الي شأو بعيد، فهو تارة مجرد صورة لرجل من مادة السيليكون أبدعه ذكاء اصطناعي يزور الدول يلتقي رؤسائها، يخاطب الناس عبر الوسائط، وتارة أخري هو قديس يصوم ولا يفطر، يبكي علي فواجع الحرب مع كل خبر، بل هو علي قول سفير مطلع علي عوالم أخري ربما: هو شبح ل”بعاتي” يروح ويجيء هكذا بلا حس وبغير أثر.
ومن بين كل هؤلاء فإن الإسلاميين بالطبع كانوا هم الاكثر حرصا علي موت حميدتي حسيا أو معنويا، وعلي بث دعاية موته باوسع نطاق.
علي أية حال، قبل الحرب كان حميدتي قد وجه خطابا لاذعا جدا للإخوان المسلمين قائلا لهم:
“لقد حكمتم هذه البلاد بغير وجه حق لثلاثين عاماً، قسمتم فيها السودان لبلدين، نشرتم فيها الفساد والاستبداد، اثرتم فيها الفتن القبلية والاجتماعية حتى ثار ضدكم الشعب وأسقطكم.
أقول لكم ارفعوا ايديكم عن الفتنة في المؤسسة العسكرية وفي أوساط المجتمع السوداني، واتركوا هذا الشعب ينعم بفترة انتقال سياسي مستقر يختار في نهايتها من يحكمه دون تزوير وتزييف”.
وفي ذات الوقت أعلن كذلك عن انحيازه التام والكامل لجانب قوي الثورة، بقوله:
“حينما رأيت شباب وشابات ثورة ديسمبر المجيدة لم اتردد في الوقوف في صفهم ضد ظلم النظام البائد واستبداده وفساده، رأيت انني اشاركهم رغبتهم في التغيير إلى الأفضل وبناء السودان، حاولت ما استطعت فأصبت حينها وأخطأت احياناً، اخرها خطأ انقلاب ٢٥ اكتوبر، الذي تبين لي منذ يومه الأول أنه لن يقود لما رغبنا فيه اولاً بأن يكون مخرجاً من الاحتقان السياسي ليصبح للاسف بوابة لعودة النظام البائد مما دفعني لعدم التردد بأن أعود عنه إلى الصواب وأن ارغب بصدق في الخروج من السلطة السياسية وتسليمها لسلطة مدنية انتقالية، وهو أمر تعاهدت عليه مع السيد الرئيس الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقيادة القوات المسلحة السودانية ولن
أعود عنه ابداً”.
المهم فإن صورة “حميدتي” كشبح أو كمنتج صناعي في مخيلة هؤلاء القوم، تذكرني بكلام شاعر يقول:
“هل متُّ من زمنٍ بعيدٍ واختفيت
ولم يصدِّقني أحدْ؟
ويواصلون البحثَ عن قبري
ليتفق الحليفُ مع العدوِّ على فضاء مشانقي
ويواصلون البحثَ عن صوتي
لأشهد أنني
لا صوت لي”.
وقوله أيضا:
“كن شبحا
وكن شبحا
ولا تخلع قناعك عن دروعك
كن شبحا
شبح البداية والنهاية والمدي
انت المدي”.
وفي ظني أن أخطر ما جعل هذه النخبة تتوجس من وجود حميدتي هو ماجاء في خطاب أعتقد أنه قد وضع به قدما علي طريق “ثورة الهامش” يوم أن قال: “أنا ابن بادية بسيط، نشأت في أقاصي هوامش السودان ولم أحظ من الدولة سوى بعنفها تجاه مجتمعاتنا، وتجاهلها لحقوقهم الأساسية، ولقد تعلمت في مدرسة الحياة الكثير من الدروس، أهمها أن المسار القديم للسودان غير عادل وغير منصف”.
وهو قول يوميء فحواه الي أبيات تقول:
“أنا من رأى في ساعةِ الميلادِ صحراءً فأمسك حفنة العشب الأخيرهْ
سأكون ما وسعَتْ يدايَ من الأفق
سأُعيدُ ترتيبَ الدروب على خُطاي
سأكون ما كانتْ رؤاي”.
وفي هذا مربط الفرس؟!