
ليست كلّ الأعياد سواء. ففي إفريقيا، لا يُحتفل بعيد الأضحى فحسب، بل يُحتفى به وكأنه عُرسُ القارة. تتجاوز المناسبةتقرير – إدريس آيات كونها شعيرة دينية، لتغدو لحظة انفجار جماعي للفرح، تنداح فيها الطبول، وتتهادى الأزياء، وتستيقظ الحارات على نبض الحياة. وليس غريبًا أن يقول أحد الأصدقاء بعدما قضى عيدًا في الخليج: “ظننت أن العيد هنا يشبه صلاة فجر يوم جمعة، ثم صمت! أما هناك في بلادي، فالعيد لا يصمت أبدًا”.
من أقصى السنغال إلى قلب نيجيريا، ومن ضفاف النيل في السودان إلى سواحل زنجبار، يتشابه جوهر العيد بين مسلمي إفريقيا والعالم الإسلامي، لكن التفاصيل هي التي ترسم الفارق. ففي حين تبدأ صلاة العيد في بلدان الخليج مثلاً قبيل شروق الشمس بقليل، تؤجَّل في معظم الدول الإفريقية حتى الساعة التاسعة أو العاشرة صباحًا، حين تسطع الشمس وتشرق الوجوه معها. ليس هذا تأخرًا في الطاعة، بل اختيارٌ لتوسيع دائرة المشاركة. يذهب الناس مع أطفالهم في هدوء، يتهادون في الطرقات متعطرين ومزهوّين بأزيائهم، فتصبح ساحات الصلاة لوحةً فنية تمشي على الأرض. وإذا كان الخليجيون يؤدون الصلاة ثم يعود كثير منهم للنوم حتى قرب الظهر، فإن النوم يوم العيد في إفريقيا يُعدّ تقصيرًا في حق الفرح. لا أحد هناك ينام، كبارًا أو صغارًا. يبدأ اليوم مبكرًا، ولا ينتهي قبل أن تشرق فيه قلوب الحي بأكملها.
الذبح… في قلب الشارع
يأخذ الذبح في إفريقيا طابعًا جماعيًا شعبيًا قلّما تجده في أماكن أخرى. تُذبح الأضاحي أمام البيوت أو في الساحات، على مرأى من الجيران والرفاق، وسط تكبيرات تمتزج فيها أصوات الرجال بضحكات الأطفال. لا حاجة لمسالخ بعيدة أو خدمات توصيل؛ كل شيء يُنجز هناك، واللحم يُشوى على الفحم فورًا، ويُقدَّم ساخنًا في آنية مشتركة، يُؤكل على الأرصفة وتحت ظلال الأشجار.
بينما في الخليج، تُرسل الأضاحي غالبًا إلى مسالخ خارج الأحياء، حيث تُذبح وتُقطع وتُغلف ثم تُعاد جاهزة. الأمر أكثر تنظيما، وأقل عشوائية، لكنه أيضًا أقل حرارة إنسانية. أما في إفريقيا، كل لحظة في العيد تُشارك، حتى الدم والعرق والمجهود، فتغدو كل قطعة لحم مغموسة بمعنى القُرب.
إضافيًا، لا تعرف الزيارات في العيد الإفريقي الرسمية ولا الموعد. الأطفال يطرقون الأبواب بلا تكلّف، والنساء يتبادلن الأطباق والحكايا، والشباب يتجمهرون للرقص والغناء في الساحات. المهرجانات الصغيرة، والعروض الشعبية، والمواكب، كلّها مشاهد لا تغيب عن العيد. تضجّ الشوارع بالبهجة، والفرح يخرج من جدران البيوت ليتقاسم الهواء مع الجميع.
أما في الخليج، فالعيد غالبًا ما يُحتفى به في الديوانيات أو البيوت، تحكمه حدود الخصوصية ونسق التحفظ. التهاني تُقال بأدب، والزيارات تُرتب بمواعيد، والأطفال يُرافقون الكبار، لا يتجولون وحدهم كما في إفريقيا، حيث يركضون بين الأزقة مطمئنين بأن كل وجه هو وجه أمّ، وكل يد هي يد خال أو عم.
نيجيريا: الفرح يمتطي صهوة الحصان
في نيجيريا، تتحول مدن الشمال ذات الأغلبية المسلمة إلى مسارح للفرح المنظم. صلاة العيد تقام في ساحات تعجُّ بالملونين بالأقمشة المزركشة، ثم تبدأ مواكب “الدوربار” الشهيرة، حيث يمتطي الفرسان خيولهم المزينة، ويتجولون في استعراض مهيب، يليق بمهرجان وطني لا مجرّد عيد ديني. الأطفال يصفقون، والنساء يُزغردن، والعيد يصبح فعلَ احتفالٍ ميداني لا تعرفه الحدود.
وتأتي الموائد، حيث يُعدّ طبق “السُويا” – اللحم المشوي المتبّل بالتوابل الحارّة – رمزًا لكرم العيد، يُوزع بسخاء، ويأكل منه الجميع. وتستمر الزيارات حتى المساء، كأن اليوم وُلد فقط ليُعاش بكل حواسه.
السنغال: حين تذوب العائلات في حضن الجدّة
في السنغال، لا يُطلق على العيد اسم ‘عيد الأضحى” فحسب، بل يُعرف بـ”تاباسكي”، وهو أكثر من مجرد مناسبة، بل طقس شعبي. تتجمع العائلات كلها في بيت الجدّة، ويأتي الأبناء والبنات من المدن إلى الأرياف. الذبح يتم أمام الجميع، وتقسيم اللحم يُشبه طقسًا مقدسًا: جزء للأسرة، وجزء للجيران، وآخر للفقراء.
ثم يخرج الأطفال مرتدين ما جادت به الأسواق من ألوان، ويتجولون في الحارات يتلقّون التهاني والعيديات، وينشرون البهجة بأغانيهم البسيطة. حتى العاصمة داكار تخفُّ حركتها في العيد، فالناس يتجهون إلى القرى، إلى حيث تكون الجذور، وتعود الحياة إلى معناها البسيط، النقي.
السودان: حين يلتقي العربي بالإفريقي في طبق “المرارة”
في السودان، يحتفل الناس بالعيد كما لو أنّه لقاء حميمي بين العروبة والروح الإفريقية. الرجال في الجلابيب البيضاء، والنساء يطرزن بيوتهن ويطهين بكميات تعجز عنها مطابخ العالم. صلاة العيد تُقام في العراء، تحت شمس السودان الذهبية، ثم تبدأ موجة التهاني العفوية التي تجوب الشوارع.
لكن الذروة، كما يقول أهل السودان، هي فطور العيد. هناك تُقدَّم “المرارة”– وهي مزيج من الكبد والمعدة والرئة تؤكل نيئة أو مشوية قليلاً – ويُشرب معها “الشربوت” المصنوع من التمر المُخمّر بالزنجبيل. هذا المشهد لا تجده إلا في السودان، حيث تمتزج النكهة بالذاكرة، والطقوس بالكرم، والطعام بالهوية.
تنزانيا (زنجبار): الفرح يمشي على الرمال
وفي زنجبار، الجزيرة التي تعانق المحيط الهندي، يأتي العيد محملاً برائحة البحر وعبق البخور. أهل الجزيرة، بأصولهم السواحلية والعربية، يحرصون على تنظيف بيوتهم وطلائها قبل العيد، وكأنهم يهيّئون المسرح لاستقبال فرحة ساحلية لا تشبه غيرها.
يخرج الأطفال بعد الصلاة في جموع، يطرقون الأبواب، يتلقّون العيديات، ويطلقون ضحكاتهم على الرمال. تُعد النساء الحلويات التقليدية، ويتعطر الرجال، وتُقام الأمسيات الموسيقية في الساحات، حيث الطبول والرقصات تُحاكي انسياب الموج. العيد في زنجبار لا يُحتفل به في البيوت، بل على الأرصفة، وفي الأسواق، وعلى الشواطئ التي تعرف أن الإنسان إذا فرح، وجب أن يرقص.
خاتمة: عيدٌ بنكهة الأرض
ما يميّز العيد في إفريقيا ليس فقط الألوان، ولا الطبول، ولا طقوس الذبح، بل تلك الروح الجماعية التي تجعل من الفرح طقسًا مشتركًا. لا يُحتفل به في غرفة أو صالة أو حتى شارع، بل في قلب المجتمع.
إنه عيد يُشبه القارة التي يُولد فيها: غني، متنوع، صاخب، كريم، وحنون. وفي المقابل، يحتفظ العالم العربي بعيده المتأني، المهذّب، المغلّف بخصوصية عائلية، وهدوء اجتماعي. كلاهما يُصلي، ويذبح، ويتبادل التهاني، لكن أحدهما يجعل من العيد احتفالًا عامًا لا يُنسى، والآخر يجعله لحظة دفء داخلية تحتمي بها العائلة من صخب الحياة. وكأن الله أراد أن يقول لنا: للعيد وجوه كثيرة، وكلها صحيحة. فافرحوا… بطريقتكم. والأهم: لا تجعلوا العيد صامتًا، فالفرح عبادة أيضًا.